أطعمه} وهذا إشارة إلى أن الله تعالى إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمراً بتحصيل الحاصل، وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام، فكيف تأمروننا به ؟
ووجه آخر : وهو أنهم قالوا : إن أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعياً في إبطال فعل الله تعالى وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال، واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر، وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي الإطلاع على المقصود الذي لأجله أمر به، مثاله : إذا أراد الملك الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد وقال للعبد : أحضر المركوب فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لتسبب إلى أن يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره فالأدب في الطاعة : هو امتثال الأمر لا تتبع المراد، فالله سبحانه إذا قال ﴿أنفقوا مما رزقكم الله﴾ لا يجوز أن يقال لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه ؟
وقد تقدم ماله بهذا تعلق.
﴿ويقولون﴾ أي : عادة مستمرة مضمومة إلى ما تقدم ﴿متى هذا﴾ وزادوا في الاستهزاء بتسميته وعداً فقالوا ﴿الوعد﴾ أي : البعث الذي تهددوننا به تارة تلويحاً وتارة تصريحاً عجلوه لنا ﴿إن كنتم صادقين﴾ فيه قال الله تعالى :
﴿ما ينظرون﴾ أي : ينتظرون ﴿إلا صيحة﴾ وبين حقارة شأنهم وتمام قدرته بقوله عز وجل ﴿واحدة﴾ وهي نفخة إسرافيل عليه السلام الأولى المميتة ﴿تأخذهم﴾ وقوله تعالى ﴿وهم يخصمون﴾ قرأه حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم والمعنى : يخصم بعضهم بعضاً فالمفعول محذوف، وأبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد، ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنهم باختلاس فتحة الخاء، والباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد، والأصل في القراءات الثلاث يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحها إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنبيهاً على أن الخاء أصلها السكون، والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان لذلك فكسروا أولهما فهذه أربع قراءات.
ولما كانت هذه هي النفخة المميتة تسبب عنها قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٩
فلا يستطيعون توصية﴾ أي : يوجدون الوصية في شيء من الأشياء ﴿ولا إلى أهلهم﴾ أي : فضلاً عن غيرهم ﴿يرجعون﴾ أي : فيروا حالهم بل يموت كل واحد في مكانه حيث تفجؤه الصيحة وربما أفهم التعبير بإلى أنهم يريدون الرجوع فيخطون خطوة أو نحوها، وفي الحديث :"لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها". ولما دل ذلك على الموت قطعاً عقبه بالبعث بقوله تعالى :
﴿ونفخ في الصور﴾ أي : القرن النفخة الثانية للبعث وبين النفختين أربعون سنة. ولما كان هذا النفخ سبباً لقيامهم عنده من غير تخلف عبر تعالى بما يدل على التعقب والتسبب والفجأة بقوله تعالى :﴿فإذا هم﴾ أي : حين النفخ ﴿من الأجداث﴾ أي : القبور واحدها جدث المهيأة هي ومن فيها لسماع ذلك النفخ، فإن قيل : كيف يكون ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال ؟
أجيب : بأن الله تعالى يجمع أجزاء كل ميت في الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه ﴿إلى ربهم﴾ أي :
٤٣٢
إلى الموقف الذي أعده لهم من أحسن إليهم بالتربية ﴿ينسلون﴾ أي : يسرعون المشي مع تقارب الخطا بقوة ونشاط فيا لها من قدرة شاملة وحكمة كاملة حيث كان صوت واحد يحيي تارة ويميت أخرى.
فإن قيل : المسيئ إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رجلاً ويؤخر أخرى والنسلان سرعة المشي فكيف يوجد منهم ؟
أجيب : بأنهم ينسلون من غير اختيارهم، فإن قيل : قال في آية أخرى ﴿فإذا هم قيام ينظرون﴾ (الزمر : ٦٨)
وقال ههنا ﴿فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون﴾ والقيام غير النسلان وقوله تعالى في الموضعين ﴿إذا هم﴾ يقتضي أن يكونا معاً ؟
أجيب : بأن القيام لا ينافي المشي السريع ؛ لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وبأن ذلك لسرعة الأمور كان الكل في زمان واحد كقول القائل :
* ** مكر مفر مقبل مدبر معاً*
واعلم أن النفختين يورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع الأجرام يفرقها وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو المراد النفخة الثانية.
ولما تشوقت النفوس إلى ما يقولون إذا عاينوا ما كانوا ينكرون استأنف قوله تعالى :
﴿قالوا﴾ أي : الذين هم من أهل الويل ﴿يا﴾ للتنبيه ﴿ويلنا﴾ أي : هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه ﴿من بعثنا من مرقدنا﴾ قال أبي بن كعب وابن عباس وقتادة : إنما يقولون هذا ؛ لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٩