ثم علل النهي عن عبادته بقوله تعالى :﴿إنه لكم﴾ والتأكيد ؛ لأن أفعالهم أفعال من يعتقد صداقته ﴿عدو مبين﴾ أي : ظاهر العداوة جداً من جهة عداوته لأبيكم التي أخرجتكم من الجنة التي لا منزل أشرف منها ومن جهة أمركم بما ينغص الدنيا من التخالف والخصام، ومن جهة تزيينه للفاني الذي لا يرغب فيه عاقل لو لم يكن فيه عيب غير فنائه فكيف إذا كان أكثره أكداراً وأدناساً ؟
فكيف إذا كان شاغلاً عن الباقي ؟
فكيف إذا كان عائقاً عن المولى ؟
فكيف إذا كان مغضباً له حاجباً
٤٣٦
عنه ؟
فإن قيل : إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزنا، والشرب، ونحو ذلك، ويكره ما يسخطه من المجاهدة، والعبادة ونحو ذلك ؟
أجيب : بأنه يستعين عليه بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله تعالى، فيستعين بشهوته التي خلقها الله تعالى فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سبباً لفساد حاله، ويدعوه بها إلى مسالك المهالك، وكذا يستعين بغضبه الذي خلقه الله تعالى فيه لدفع المفاسد ويجعله سبباً لوباله وفساد أحواله، وميل الإنسان إلى المعاصي كميل المريض إلى المضار، وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد في مرضه ومن معدته فاسدة لا تهضم القليل من الغداء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه.
ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادة الرحمن بقوله عاطفاً على أن لا :
﴿وأن اعبدوني﴾ أي : وحدوني وأطيعوني ﴿هذا﴾ أي : الأمر بعبادتي ﴿صراط﴾ أي : طريق ﴿مستقيم﴾ أي : بليغ الاستقامة وعبادة الشيطان طريق ضيق معوج غاية الضيق والعوج، وقرأ قنبل بالسين وخلف بالإشمام أي : بين الصاد والزاي والباقون بالصاد.
ثم ذكر ما ينبه لعداوة الشيطان بقوله تعالى :
﴿ولقد أضل منكم﴾ أي : عن الطريق الواضح السوي بما سلطه به من الوسوسة ﴿جبلاً﴾ أي : أممااًكباراً عظاماً ما كانوا كالجبال في قوة العزائم وصعوبة الانقياد، ومع ذلك كان يلعب بهم كما تلعب الصبيان بالكرة، فسبحان من أقدره على ذلك وإلا فهو أضعف كيداً وأحقر أمراً، وقرأ نافع وعاصم بكسر الجيم و الباء الموحدة وتشديد اللام مع التنوين، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بضم الجيم وسكون الموحدة، والباقون بضم الجيم والموحدة وكلها لغات ومعناها : الخلق والجماعة أي : خلقاً ﴿كثيراً﴾ ثم زاد في التوبيخ والإنكار بقوله تعالى :﴿أفلم تكونوا تعقلون﴾ أي : عداوته وإضلاله، وما حل بهم من العذاب فتؤمنوا ويقال لهم في الآخرة :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
هذه جهنم﴾ أي : التي تستقبلكم بالعبوسة، والتجهم كما كنتم تفعلون بعبادي الصالحين ﴿التي كنتم توعدون﴾ أي : إن لم ترجعوا عن غيّكم.
﴿اصلوها﴾ أي : قاسوا حرها وتوقدها وهول أمر ذلك اليوم فإن ذكره على حد ما مضى بقوله تعالى :﴿اليوم﴾ ليكونوا في شغل شاغل كما كان أصحاب الجنة وشتان ما بين الشغلين ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كنتم تكفرون﴾ أي : تسترون ما هو ظاهر جداً بعقولكم من آياتي في دار الدنيا.
تنبيه : في هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه أحدها : قوله تعالى ﴿اصلوها﴾ أمر تنكيل وإهانة كقوله تعالى ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان : ٤٩)
ثانيها : قوله تعالى ﴿اليوم﴾ يعني : العذاب حاضر ولذاتهم قد مضت وبقي اليوم العذاب. ثالثها : قوله تعالى ﴿بما كنتم تفكرون﴾ فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام كما قيل :
*أليس بكاف لذي همة ** حياء المسيئ من المحسن*
ولما كان كأنه قيل هل يحكم في ذلك اليوم بعلمه، أو يجري الأمر على قاعدة الدنيا في
٤٣٧
العمل بالبينة ؟
نبه على أظهر من قواعد الدنيا بقوله تعالى مهولاً :
﴿اليوم﴾ على النسق الماضي في مظهر العظمة ؛ لأنه أليق بالتهويل ﴿نختم﴾ أي : بما لنا من عظيم القدرة ﴿على أفواههم﴾ أي : الكفار لاجترائهم على الكذب كقوله سبحانه ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ (الأنعام : ٢٣)
﴿وتكلمنا أيديهم﴾ أي : بما عملوا إقراراً هو أعظم شهادة ﴿وتشهد أرجلهم﴾ أي : عليهم بكلام بين هو مع كونه شهادة إقرار ﴿بما كانوا﴾ أي : في الدنيا بجبلاتهم ﴿يكسبون﴾ فكل عضو ينطق بما صدر عنه، فالآية من الاحتباك أثبت الكلام للأيدي أولاً : لأنها كانت مباشرة دليلاً على حذفه من حيز الأرجل ثانياً : وأثبت الشهادة للأرجل ثانياً ؛ لأنها كانت حاضرة دليلاً على حذفها من حيز الأيدي أولاً.
وتقريبه : أن قول المباشر إقرار وقول الحاضر شهادة، وفي كيفية هذا الختم وجهان أقواهما أن الله تعالى يسكت ألسنتهم، وينطلق جوارحهم فتشهد عليهم، وإن ذلك في قدرة الله تعالى يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فإن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فجاز تحريك غيره بمثلها والله سبحانه قادر على كل الممكنات.