والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم، وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس لا يجدون عذراً فيعتذرون، ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهور الأمر بحيث لا يسمع منه الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
والصحيح الأول لما روى أبو هريرة :"أن ناساً سألوا رسول الله ﷺ فقالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟
فقال : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : فهل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب قالوا : لا يا رسول الله قال : والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤيتهما قال : فيلقى العبد فيقول : ألم أكرمك ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تتزايد وتترافع قال : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي فيقول : لا يا رب فيقول اليوم أنساك كما نسيتني إلى أن قال : ثم يلقى الثالث فيقول : ما أنت فيقول : أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع ثم قال : فيقال له : أفلا نبعث عليك شاهدنا قال : فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه، فيقال لفخذه : انطقي قال : فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل، قال : وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه".
ولما روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال :"كنا عند رسول الله ﷺ فضحك فقال : هل تدرون مم أضحك قال : قلنا : الله ورسوله أعلم قال : من مخاطبة العبد ربه قال : يقول العبد : يا رب ألم تجرني من الظلم فيقول : بلى فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني فيقول تعالى ﴿كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً﴾ (الإسراء : ١٤)
وبالكرام الكاتبين شهوداً فيختم على فيه ويقول لأركانه : انطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول : بُعداً لَكُنَّ أو سحقاً فعنكن كنت أناضل" وقال ﷺ "أول ما يسأل من أحدكم فخذه وكفه".
٤٣٨
تنبيه : ههنا سؤالات : الأول : ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال ﴿نختم﴾ وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، الثاني : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي والشهادة للأرجل، الثالث : أن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً، وغير الصديقين من الكفار والفساق لا تقبل شهادتهم، والأيدي والأرجل صدرت الذنوب عنها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتهم ؟
أجيب : عن الأول : بأنه لو قال : نختم على أفواههم وننطِق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً وقهراً والإقرار بالإجبار غير مقبول فقال ﴿وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم﴾ أي : بالاختيار بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
وأجيب عن الثاني : بأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى ﴿وما عملته أيديهم﴾ أي : ما عملوه وقال تعالى ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ (البقرة : ١٩٥)
أي : ولا تلقوا أنفسكم فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهن.
وأجيب عن الثالث : بأن الأيدي والأرجل ليسوا من أهل التكلف ولا ينسب إليها عدالة ولا فسق إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه، ولا يقال : ورد أن العين تزني وأن الفرج يزني وأن اليد كذلك ؛ لأن معناه أن المكلف يزني بها لا أنها هي تزني، وأيضاً فإنا نقول : في رد شهادتها قبول شهادتها ؛ لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لابد أن يكون مذنباً في الدنيا وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا، وهذا كمن قال لفاسق : إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر فقال الفاسق : كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد ؛ لأنه إن صدق في قوله : كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووقع الجزاء، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم فقد وجد الشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني : كذبت في نهار ذلك اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه، ثم بين سبحانه وتعالى أنه قادر على إذهاب الأبصار كما هو قادر على إذهاب البصائر بقوله تعالى :
﴿ولو نشاء﴾ وعبر بالمضارع ليتوقع في كل حين فيكون أبلغ في التهديد ﴿لطمسنا على أعينهم﴾ أي : الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق وهو معنى الطمس كقوله تعالى ﴿ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم﴾ (البقرة : ٢٠)


الصفحة التالية
Icon