يقول : إنا أعمينا قلوبهم ولو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة وقوله تعالى ﴿فاستبقوا الصراط﴾ أي : ابتدروا الطريق ذاهبين كعادتهم عطف على لطمسنا ﴿فأنى﴾ أي : فكيف ﴿يبصرون﴾ الطريق حينئذ وقد أعمينا أعينهم أي : لو نشاء لأضللناهم عن الهدى وتركناهم عمياً يترددون فلا يبصرون الطريق وهذا قول الحسن والسدي، وقال ابن عباس ومقاتل : معناه لو نشاء لطمسنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى يبصرون ولم أفعل ذلك بهم.
ولما كان هذا كله مع القدرة على الحركة قال تعالى :
﴿ولو نشاء﴾ أي : مسخهم ﴿لمسخناهم﴾ أي : حولناهم عن تلك الحالة فجعلناهم حجارة أو جعلناهم قردة وخنازير.
ولما كان المقصود من المفاجأة بهذه المصائب بيان أنه سبحانه لا كلفة عليه في شيء من ذلك قال تعالى ﴿على مكانتهم﴾ أي : المكان الذي كان قبل المسخ كل شخص منهم شاغلاً له
٤٣٩
بجلوس أو قيام أو غيره في ذلك الموضع خاصة قبل أن يتحرك منه، وقرأ شعبة بألف بعد النون على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد ﴿فما استطاعوا﴾ أي : بأنفسهم بنوع معالجة ﴿مضيا﴾ أي : إلى جهة من الجهات ثم عطف على جملة الشرط قوله تعالى ﴿ولا يرجعون﴾ أي : يتجدد لهم بوجه من الوجوه رجوع إلى حالتهم التي كانت قبل المسخ دلالة على أن هذه الأمور حق لا كما يقولون من أنها خيال وسحر قيل : لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
ومن نعمره﴾
أي : نطل عمره إطالة كثيرة ﴿ننكسه﴾ قرأه عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح النون الثانية وتشديد الكاف مكسورة من نكسه مبالغة، والباقون بفتح النون الأولى وسكون الثانية وتخفيف الكاف مضمومة من نكسه وهي محتملة للمبالغة وعدمها ومعنى ننكسه :﴿في الخلق﴾ أي : خلقه نرده إلى أرذل العمر يشبه الصبي في الخلق، وقيل : ننكسه في الخلق أي : ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بعد زيادتها ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة في النوع الآدمي أن من استوفى سن الصبا والشباب اثنتين وأربعين سنة حسمت غرائزه فلا تزيد فيه غريزة ووقفت قواه كلها فلم يزد فيها شيء هذا في البدن، وأما في المعارف فتارة وتارة وهذا أيضاً في غير الأنبياء عليهم السلام، أما هم فلا ينقص شيء من قواهم بل تزداد كما روي أن النبي ﷺ كان يمشي غير مكترث وأن الصحابة رضي الله عنهم يجهدون أنفسهم فيكون جهدهم أن لا يدركوا مشيته الهوينا و"أنه ﷺ صارع ركانة" الذي كان يضرب بقوته المثل، وكان واثقاً من نفسه أنه يصرع من صارعه فلم يملكه النبي ﷺ نفسه وعاد إلى ذلك ثلاث مرات كل ذلك لا يتمسك في يده حتى خرج يقول : إن هذا لعجب يا محمد تصرعني"، وحتى :"أنه دار على نسائه وهن تسع كل واحدة منهن تسع مرات في طلق واحد" إلى غير ذلك مما يحكى من قواه التي فاق بها الناس.
ولم يحك عن نبي من الأنبياء عليهم السلام ممن عاش منهم ألفاً وممن عاش دون ذلك أنه نقص شيء من قواه بل قد ورد في الصحيح من حديث أبي هريرة :"أن ملك الموت عليه السلام أرسل إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه فلما جاءه صَكّهُ ففقأ عينه فقال لربه : أرسلتني لعبد لا يريد الموت قال : ارجع إليه فقل له : يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال : أي : رب ثم ماذا ؟
قال : الموت قال : فالآن" وكان موسى وقت قبضه ابن مائة وعشرين سنة ﴿أفلا يعقلون﴾ أي : أن القادر على ذلك عندهم قادر على البعث فيؤمنون، وقرأ نافع وابن ذكوان بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة.
ولما منح الله تعالى نبينا محمداً ﷺ غرائز من الفضائل مما عجز عنها الأولون والآخرون، وأتى بقرآن أعجز الأنس والجن، وعلوم وبركات فاقت القوى ليس بشعر خلافاً لما رموه به بغياً وكذباً وعدواناً قال تعالى :
﴿وما علمناه﴾ أي : نحن ﴿الشعر﴾ فيما علمناه وهو أن يتكلف التقيد بوزن معلوم، ورويِّ مقصود وقافية يلتزمها ويدير المعاني عليها ويحتلب الألفاظ تكلفاً إليها كما كان زهير وغيره في قصائدهم ﴿وما أنا من المتكلفين﴾ (ص : ٨٦)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
لأن ذلك، وإن كنتم أنتم تعدونه فخراً
٤٤٠
لا يليق بجنابنا ؛ لأنه لا يفرح به إلا من يريد ترويج كلامه وتحليته بصوغه على وزن معروف مقصود وقافية ملتزمة على أن فيه نقيصة أخرى وهي أعظم ما يوجب النفرة عنه وهي أنه لا بد أن يوهي التزامه بعض المعاني، ولما لم نعلمه هذه الدناءة طبعناه على جميع فنون البلاغة ومكناه من سائر وجوه الفصاحة، ثم أسكنا فيه ينابيع الحكمة ودربناه على إلقاء المعاني الجليلة بما ألهمنا إياه، ثم ألقاه إليه جبريل عليه السلام مما أمرناه به من جوامع الكلم والحكم فلا تكلف عنده أصلاً :"ما خير ﷺ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم".


الصفحة التالية
Icon