ولما كان الشعر مع ما يبنى عليه من التكلف الذي هو بعيد جداً عن سجايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف شرفهم بما يكسب مدحاً وهجواً فيكون أكثره كذباً إلى غير ذلك.
قال تعالى ﴿وما ينبغي له﴾ أي : وما يصح له الشعر ولا يسهل له على ما أختبرتم من طبعه نحواً من أربعين سنة ؛ لأن منصبه أجل وهمته أعلى من أن يكون مداحاً أو عياباً أو أن يتقيد بما قد يجر نقيصة في المعنى وجبلته منافية لذلك غاية المنافاة بحيث لو أراد نظم شعر لم يتأت له، كما جعلناه أمياً لا يكتب ولا يحسب لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض، وما كان يتزن له بيت شعر حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً روى الحسن :"أن النبي ﷺ كان يتمثل بهذا البيت :
*كفى بالشيب والإسلام للمرء ناهياً*
فقال أبو بكر رضي الله عنه : إنما قال الشاعر :
*كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال عمر رضي الله عنه : أشهد أنك رسول الله يقول الله عز وجل ﴿وما علمناه الشعر وما ينبغي له﴾ وعن ابن شريح قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : أكان رسول الله ﷺ يتمثل بشيء من الشعر قالت :"كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت : وربما قال :
*ويأتيك بالأخبار من لم تزود*
وفي رواية قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بين قيس طرفة العبدي :
٤٤١
*ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود*
فجعل يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فقال :"إني لست بشاعر ولا ينبغي لي" وقيل : معناه ما كان متأتياً له، وأما قوله ﷺ كما رواه مسلم والبخاري :"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وقوله كما رواه الشيخان أيضاً :
*"
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
هل أنت إلا إصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت"*
فاتفاقي من غير تكلف وقصد منه إلى ذلك وقد يقع مثله كثيراً في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعراً، هذا وقد روى أنه حرك الباءين في قوله : أنا النبي لا كذب وكسر التاء الأولى بلا إشباع وسكن الثانية من قوله هل أنت إلا إصبع إلخ.
وقيل : الضمير للقرآن أي : وما يصح أن يكون القرآن شعراً، فإن قيل : لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي ﷺ أشياء من جملتها السحر والكهانة ولم يقل : وما علمناه السحر وما علمناه الكهانة ؟
أجيب : بأن الكهانة إنما كانوا ينسبون النبي ﷺ إليها عندما كان يخبر عن الغيوب وتكون كما يقول وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكليم الجذع والحجر وغير ذلك، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلو القرآن عليهم لكنه ﷺ ما كان يتحدى إلا بالقرآن كما قال تعالى ﴿إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله﴾ (البقرة : ٢٣)
إلى غير ذلك ولم يقل : إن كنتم في شك من رسالتي فأخبروا بالغيوب أو أشبعوا الخلق الكثير بالشيء اليسير. فلما كان تحديه ﷺ بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
وما نفى أن يكون ما أتى به من جنس الشعر قال تعالى :
﴿إن﴾ أي : ما ﴿هو﴾ أي : هذا الذي آتاكم به ﴿إلا ذكر﴾ أي : شرف وموعظة ﴿وقرآن﴾ أي : جامع للحكم كلها دنيا وأخرى يتلى في المحاريب ويكرر في المتعبدات وينال بتلاوته والعمل به فوز الدارين والنظر إلى وجه الله العظيم ﴿مبين﴾ أي : ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز ﴿قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين﴾ (ص : ٨٦)
كلهم ذكيهم وغبيهم بخلاف الشعر فإنه مع نزوله عن بلاغته جداً إنما ذكر للأذكياء جداً وقوله تعالى :
﴿لينذر﴾ ضميره للنبي ﷺ ويدل له قراءة نافع وابن عامر بالتاء الفوقية على الخطاب وقيل : للقرآن ويدل له قراءة الباقين بالياء التحتية على الغيبة، واختلف
٤٤٢
في قوله تعالى ﴿من كان حياً﴾ على قولين : أحدهما : أن المراد به المؤمن ؛ لأنه حي القلب والكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى ﴿أو من كان ميتاً فأحييناه﴾ (الأنعام : ١٢٢)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
والثاني : المراد به العاقل فهماً فيعقل ما يخاطب به فإن الغافل كالميت ﴿ويحق﴾ أي : يجب ويثبت ﴿القول﴾ أي : العذاب ﴿على الكافرين﴾ أي : الغريقين في الكفر فإنهم أموات في الحقيقة وإن رأيتهم أحياء، ويمكن أن تكون هذه الآية من الاحتباك حذف الإيمان أولاً لما دل عليه من ضده ثانياً، وحذف الموت ثانياً لما دل عليه من ضده أولاً، وأفرد الضمير في الأول على اللفظ إشارة إلى قلة السعداء، وجمع في الثاني على المعنى إعلاماً بكثرة الأشقياء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤


الصفحة التالية
Icon