حيث اقتصر على ذكر طرفي القصة أولها وآخرها وهما الإنذار والتدمير، ودل بذكرهما على ما هو الغرض من القصة الطويلة كلها وهو أنهم قوم كذبوا بآيات الله فأراد الله إلزام الحجة عليهم فبعث إليهم رسولين فكذبوهما فأهلكهم.
فإن قيل : كيف ساغ لموسى عليه السلام أن يأمره ربه بأمر فلا يقبله بسمع وطاعة من غير توقف وتشبث بعلل، وقد علم أن الله تعالى عليم بحاله ؟
أجيب : بأنه قد امتثل وتقبل ولكنه التمس من ربه أن يعضده بأخيه حتى يتعاونا على تنفيذ أمره وتبليغ رسالته فمهد قبل التماسه عذراً فيما التمسه ثم التمس بعد ذلك، وتمهيد العذر في التماس المعين على تنفيذ الأمر ليس بتوقف في امتثال الأمر ولا بتعلل فيه، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل لا على التعلل، ثم زاد في الاعتذار في طلب العون خوفاً من أن يقتل قبل تبليغ الرسالة بقوله :
﴿ولهم علي ذنب﴾ أي : تبعه ذنب فحذف المضاف، أو سمى باسمه كما يسمى جزاء السيئة سيئة وهو قتله القبطي وسماه ذنباً على زعمهم، وهذا اختصار قصته المبسوطة في مواضع. ﴿فأخاف﴾ بسبب ذلك ﴿أن يقتلون﴾ أي : يقتلونني به.
﴿قال﴾ الله تعالى ﴿كلا﴾ أي : ارتدع عن هذا الكلام فإنه لا يكون شيءُ، مما خفت لا قتل ولا غيره، وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام عليه من الصدق من البراهين المقوية لصاحبها الشارحة لصدره العلية لأمره عدّ عدماً، وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك.
﴿فاذهبا﴾ أي : أنت وأخوك متعاضدين إلى ما أمرتك به مؤيدين ﴿بآياتنا﴾ الدالة على صدقكما.
تنبيه :﴿فاذهبا﴾ عطف على ما دلّ عليه حرف الردع من الفعل كأنه قيل : ارتدع عما تظن فاذهب أنت وأخوك بآياتنا ﴿إنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿معكم مستمعون﴾ أي : سامعون لأنه تعالى لا يوصف بالمستمع على الحقيقة لأنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء والاستماع من السمع بمنزلة النظر من الرؤية، ومنه قوله تعالى :﴿قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجنّ فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً﴾ (الجن، ١)
ويقال استمع إلى حديثه وسمع حديثه : أصغى إليه وأدركه بحاسة السمع، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام :"من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه البرم" وهو الكحل المذاب ويروى : البيرم وهو بزيادة الياء، فإن قيل : لم قال معكم بلفظ الجمع وهما اثنان ؟
٤٤
أجيب : بأنه تعالى أجراهما مجرى الجمع تعظيماً لهما، أو معكما ومع بني إسرائيل يسمع ما يجيبكم فروعون.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠
فأتيا﴾ أي : فتسبب عن ذهاب ما ذكرت بالحراسة والحفظة أني أقول لكما ائتيا ﴿فرعون﴾ نفسه وإن عظمت مملكته وجلت جنوده ﴿فقولا﴾ أي : ساعة وصولكما له ولمن عنده ﴿إنا رسول رب العالمين﴾ أي : المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم مصالحهم، فإن قيل : هلا ثنى الرسول كما ثنى في قوله تعالى :﴿إنا رسولا ربك﴾ ؟
(طه، ٤٧) أجيب : بأن الرسول يكون بمعنى المرسل فلم يكن بد من تثنيته، وأما ههنا فهو إما لأنه مصدر بمعنى الرسالة والمصدر يوحد ومن مجيء رسول بمعنى الرسالة قوله :
*لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ** بسرّ ولا أرسلتهم برسول*
أي : برسالة، والواشون الساعون بالكذب عند ظالم وما فهت بمعنى ما تكلمت، وإما لأنهما ذوا شريعة واحدة فنزلا منزلة رسول، وإما لأنه من وضع الواحد موضع التثنية لتلازمهما فصارا كالشيئين المتلازمين كالعينين واليدين، وقال أبو عبيدة : يجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع تقول العرب هذا رسولي ووكيلي وهذان رسولي ووكيلي وهؤلاء رسولي ووكيلي، كما قال تعالى :﴿وهم لكم عدوّ﴾ (الكهف : ٥٠)، ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبراً بأداة التفسير، لأنّ الرسول فيه بمعنى الرسالة التي تتضمن القول.
﴿أن﴾ أي : بأن ﴿أرسل﴾ أي : خل وأطلق، وأعاد الضمير على معنى رسول فقال ﴿معنا بني إسرائيل﴾ أي : قومنا الذين استعبدتهم ظلماً ولا سبيل لك عليهم نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله تعالى بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام، وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفاً، ويروى أن موسى رجع مصر وعليه جبة صوف وفي يده عصاه ومكتل معلق في رأس العصا وفيه زاده فدخل داره نفسه وأخبر هارون بأن الله تعالى أرسلني إلى فرعون وأرسل إليك حتى ندعو فرعون إلى الله تعالى، فخرجت أمهما وصاحت، وقالت إن فرعون يطلبك ليقتلك فلو ذهبتما إليه قتلكما فلم يمتنع بقولها : وذهبا إلى باب فرعون ليلاً ودقا الباب ففزع البوابون وقالوا من بالباب، وروي أن البواب اطلع عليهما وقال من بالباب ومن أنتما ؟
فقال موسى أنا رسول رب العالمين فذهب البواب إلى فرعون وقال إن مجنوناً بالباب يزعم أنه رسول رب العالمين فقال فرعون ائذن له لعلنا نضحك منه، وقيل : لم يؤذن لهما إلى سنة فدخلا عليه وأديا رسالة الله عز وجل فعرف فرعون موسى لأنه نشأ في بيته فلما عرفه.