﴿قال﴾ له منكراً عليه ﴿ألم نربك﴾ حذف، فأتيا فرعون فقالا له ذلك لأنه معلوم لا يشتبه وهذا النوع من الاختصار كثير في القرآن ﴿فينا﴾ أي : في منازلنا ﴿وليداً﴾ أي : صغيراً قريباً من الولادة بعد فطامه ﴿ولبثت فينا﴾ أي : في عزنا باعتبار انقطاعك إلينا وتعززك بنا ﴿من عمرك سنين﴾ ثلاثين سنة فما لنا عليك من الحق ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدّة مقامه عنده بأنها كانت نكدة لأنه وقع فيما كان يخافه وفاته ما كان يحتاط
٤٥
به من ذبح الأطفال، وكان موسى يلبس من ملابس فرعون ويركب من مراكبه وكان يسمى ابنه، وقرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء، والباقون بالإدغام، ولما ذكره ما يحمله على الحياء منه ذكره ذنباً يخاف من عاقبته فقال مهولاً له بالكناية.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠
وفعلت فعلتك﴾ أي : من قتل القبطي، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيراً إلى أنه عامله بالحلم تخجيلاً له فقال ﴿التي فعلت وأنت﴾ أي : والحال أنك ﴿من الكافرين﴾ قال الحسن والسدي من الكافرين بإلهك ومعناه : على ديننا هذا الذي تعيبه، وقال أكثر المفسرين أي : الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد يقول ربيناك فكافأتنا أن قتلت منا نفساً وكفرت بنعمتنا وهذا رواية العوفي عن ابن عباس : وقال إنّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠
﴿قال﴾ له موسى مجيباً على طريقة النشر المشوش واثقاً بوعد الله تعالى بالسلامة ﴿فعلتها إذاً﴾ أي : إذ قتلته ﴿وأنا من الضالين﴾ أي : من الجاهلين بأنّ ذلك يؤدّي إلى قتله، أو المخطئين كمن يقتل خطأً من غير تعمد للقتل. قال ابن جرير : والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال. وقيل : لا أعرف ذنباً فأنا واثق من كل جهة حتى يوجهني ربي إلى ما شاء.
﴿ففررت﴾ أي : فتسبب عن فعلها أني فررت ﴿منكم﴾ أي : منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ ﴿لما خفتكم﴾ على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطأً وأنا ابن اثنتي عشرة سنة مع كونه كافراً مهدر الدم ﴿فوهب لي ربي﴾ الذي أحسن إليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة عليّ مما أحدثتم من الظلم ﴿حكماً﴾ أي : علماً وفهماً، وقيل نبوّة ﴿وجعلني من المرسلين﴾ أي : فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره، ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير، بدأه بجوابه عن التعيير ولأنه الأخير فكان أقرب ولأنه أهم، وهو معنى ما تقدم من أنه على طريقة النشر المشوش بأن يبدأ بالأخير قبل الأوّل، ولهذا كرّ على امتنانه عليه بالتربية فأبطله من أصله موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب وأبى أن تسمى نعمته إلا نقمة بقوله :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦
وتلك﴾ أي : التربية الشنيعة العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها ﴿نعمة تمنها عليّ أن عبدت﴾ أي : تعبيدك وتذليلك قومي ﴿بني إسرائيل﴾ أي : جعلتهم عبيداً ظلماً وعدواناً وهم أبناء الأنبياء ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة بإحياء نفوسكم أولاً وعتق رقابكم ثانياً، ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد فأمرت بقتل أبناءهم فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك، ولو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليمّ فكيف تمن عليّ بذلك ؟
وقيل : معناه إنك تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في تربيته. وقال الحسن : إنك استعبدت بني إسرائيل فأخذت أموالهم وأنفقت منها عليّ فلا نعمة لك بالتربية. وقيل : إنّ الذي تولى تربيتي هم الذين استعبدتهم فلا منة لك عليّ لأنّ التربية كانت من قبل أمي ومن قومي، ليس لك إلا مجرد الاسم وهذا ما يعد إنعاماً.
فإن قيل : لم جمع الضمير في منكم وخفتكم مع إفراده في تمنها وعبدت ؟
أجيب : بأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملئه المؤتمرين بقتله، كما مرّت الإشارة إليه بدليل قوله تعالى :﴿إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك﴾ (القصص : ٢٠)
وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك
٤٦
التعبيد، ولما قال له بوابه إنّ ههنا من يزعم أنه رسول رب العالمين وأدخله عليه.
﴿قال﴾ له ﴿فرعون﴾ عند دخوله حائداً عن جوابه منكراً لخالقه على سبيل التجاهل كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهم أعرف الناس بغالب أفعاله كما كان فرعون يعرف لقول موسى عليه الصلاة والسلام ﴿لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر﴾ (الإسراء : ١٠٢)