﴿وما ربّ العالمين﴾ أي : الذي زعمتما أنكما رسوله وإنما أتى بما دون من لأنها يسأل بها عن طلب الماهية كقولك ما العنقاء، ولما كان جواب هذا السؤال لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه الخارجية لامتناع التعريف بنفسه وبما هو داخل فيه لاستحالة التركيب في ذاته عدل موسى عليه السلام إلى جواب ممكن فأجاب بصفاته تعالى، كما قال تعالى إخباراً عنه :
﴿قال رب﴾ أي : خالق ومبدع ومدبر ﴿السموات﴾ كلها ﴿والأرض﴾ وإن تباعدت أجرامها بعضها من بعض ﴿وما بينهما﴾ أي : بين السموات والأرض فأعاد ضمير التثنية على جمعين اعتباراً بالجنسين وخصه بهذه الصفات لأنها أظهر خواصه وآثاره وفيه إبطال لدعواه أنه إله، ومعنى قوله ﴿إن كنتم موقنين﴾ أي : إن كان يرجى منكم الإيقان الذي يؤدّي إليه النظر الصحيح نفعكم هذا الجواب وإلا لم ينفع، أو إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله، ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦
قال﴾
فرعون ﴿لمن حوله﴾ من أشراف قومه، قال ابن عباس : وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة وكانت للملوك خاصة ﴿ألا تستمعون﴾ جوابه الذي لم يطابق السؤال، سألته عن حقيقته وهو يجيبني بالفاعلية، ولما كان يمكن أن يعتقد أن السموات والأرضين واجبة لذاتها فهي غنية عن الخالق.
﴿قال﴾ لهم موسى زيادة في البيان ﴿ربكم ورب آبائكم الأولين﴾ فعدل عن التعريف بخالقية السموات والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لهم ولآبائهم، إذ لا يمكن أن يعتقد في نفسه وفي آبائه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم لأنّ المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم وعدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته واستحال وجوده إلا بالمؤثر فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ولكن فرعون لم يكتف بذلك ولهذا.
﴿قال إنّ رسولكم﴾ على طريق التهكم إشارة إلى أنّ الرسول ينبغي أن يكون أعقل الناس ثم زاد الأمر بقوله :﴿الذي أرسل إليكم﴾ أي : وأنتم أعقل الناس ﴿لمجنون﴾ لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فكيف يصلح للرسالة من الملوك ؟
فلما قال ذلك عدل موسى ج إلى طريق ثالث أوضح من الثاني بأن.
﴿قال رب المشرق والمغرب﴾ أي : الشروق والغروب ووقتهما وموضعهما ﴿وما بينهما﴾ من المخلوقات لأنّ التدبير المستمرّ على هذا الوجه العجيب لا يتمّ إلا بتدبير مدبر قادر، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكر موسى عليه الصلاة السلام بقوله :﴿ربكم ورب آبائكم الأولين﴾ فأجابه نمروذ ﴿أنا أحي وأميت﴾ (البقرة : ٢٢٨)
فقال ﴿إنّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر﴾ (البقرة : ٢٥٨)
وهو الذي ذكره موسى ج بقوله :﴿رب المشرق والمغرب﴾ وأما قوله :﴿إن كنتم تعقلون﴾ فكأنه ج قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لك، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته
٤٧
ولا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته، وقد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فمن كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرته لك، فلما انقطع فرعون عن الجواب ولزمته الحجة تكبر عن الحق وعدل إلى التخويف بأن.
﴿قال لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين﴾ أي : واحداً ممن هم في سجني على ما تعلم من حالي في اقتداري ومن سجوني وفظاعتها، ومن حال من فيها من شدّة الحصر والغلظ في الحجر. قال الكلبي : كان سجنه أشدّ من القتل لأنه كان يأخذ الرجل فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق وحده لا يسمع ولا يبصر فيها شيئاً، وقرأ ابن كثير وحفص وعاصم بإظهار الذال عند التاء، والباقون بالإدغام، ثم ذكر موسى ج كلاماً مجملاً ليعلق فرعون قلبه به فيعدل عن وعيده، بأن.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦
قال﴾
مدافعاً بالتي هي أحسن إرخاء للعنان لإزادة البيان معنىً لا يبقى معه عذر ولا نسيان، لأنّ من العادة الجارية السكون إلى الإنصاف والرجوع إلى الحق والاعتراف ﴿أولو﴾ أي : أتسجنني ولو ﴿جئتك بشيءٍ مبين﴾ أي : هل يحسن أن يذكر هذا مع اقتداري على أن آتيك بشيء بدليلين يدلان على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله فعند ذلك.
﴿قال﴾ طمعاً في أن يجد موضعاً للتكذيب أو التلبيس ﴿فأت به﴾ أي : تسبب عن قولك هذا أني أقول ائت بذلك الشيء ﴿إن كنت من الصادقين﴾ أي : فيما ادعيت من الرسالة.
تنبيه : الواو في أولو جئتك واو الحال وليتها الهمزة بعد حذف الفعل كما علم من التقرير، فإن قيل : كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأوّل وهو قوله أولو جئتك بشيء مبين أي : بآية بينة والمعجز لا يدل على ذلك كدلالة سائر ما تقدم ؟
أجيب : بأنه يدل بما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده وعلى أنه صادق في ادعاء الرسالة، فالذي ختم به كلامه ما تقدم.


الصفحة التالية
Icon