﴿فألقى﴾ أي : فتسبب عن ذلك وتعقبه أن ألقى موسى ﴿عصاه﴾ التي تقدم في غير سورة أنّ الله تعالى أراه إياها ولم يصرّح باسمه اكتفاء بضميره لأنه غير ملتبس ﴿فإذا هي ثعبان﴾ أي : حية في غاية الكبر ﴿مبين﴾ أي : ظاهر ثعبانيته، روي أنها لما انقلبت حية ارتفعت إلى السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون تقول يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون أسألك بالذي أرسلك إلا ما أخذتها فأخذها فعادت عصا، فإن قيل : كيف قال هنا ﴿ثعبان مبين﴾ وفي آية أخرى ﴿فإذا هي حية تسعى﴾ (طه : ٢٠)
وفي آية ثالثة ﴿كأنها جان﴾ (النمل : ١٠)
والجان مائل إلى الصغر والثعبان إلى الكبر ؟
أجيب : بأن الحية اسم الجنس ثم لكبرها صارت ثعباناً، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى :﴿والجانّ خلقناه من قبل من نار السموم﴾ (الحجر : ٢٧)
ويحتمل أنها كانت صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعباناً، ثم إنّ موسى ج لما أراه آية العصا قال فرعون هل غيرها قال : نعم.
﴿ونزع يده﴾ أي : التي كانت احترقت لما أخذ الجمرة وهو في حجر فرعون، وبذل فرعون جهده في علاجها بجميع من قدر عليه من الأطباء فعجزوا عن إبرائها نزعها من جيبه بعد أن أراه إياها على ما يعهده منها ثم أدخلها في جيبه ﴿فإذا هي﴾ بعد النزع ﴿بيضاء للناظرين﴾ يضيء الوادي من شدّة بياضها من غير
٤٨
برص، لها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر ويسدّ الأفق، فعند هذا أراد فرعون لعمية هذه الحجة على قومه فذكر أموراً أوّلها أن.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦
قال للملأ حوله﴾ لما وضح له الأمر يمّوه على عقولهم : خوفاً من إيمانهم ﴿إنّ هذا لساحر عليم﴾ أي : شديد المعرفة بالسحر، حوله : حال من الملأ ومفعول القول، قوله :﴿إن هذا لساحر عليم﴾ ولما أوقعهم بما جبلهم به أحماهم لأنفسهم فقال ملغياً لجلباب الإلهية لما قهره من سلطان المعجزة.
﴿يريد أن يخرجكم من أرضكم﴾ أي : هذه التي هي قوامكم ﴿بسحره﴾ أي : بسبب ما أتى به، فإنه يوجب استتباع الناس فيتمكن مما يريد، ثم قال لقومه الذين كان يزعم أنهم عبيده وأنه إلههم، ما دل على أنه حارت قواه فحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وارتعدت فرائصه لما استولى عليه من الدهش والحيرة حتى جعل نفسه مأموراً بعد أن كان يدعي كونه آمراً بل إلهاً قادراً ﴿فماذا تأمرون﴾ أي : في مدافعته عما يريد بنا.
﴿قالوا﴾ أي : الملأ الذين كانوا حوله ﴿أرجه وأخاه﴾ أي : أخر أمرهما ومناظرتهما إلى اجتماع السحرة، ولم يأمر بقتلهما ولا بما يقاربه، فسبحان من يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده فيهابه كل شيء ولا يهاب هو غير خالقه. وقرأ قالون بغير همز واختلاس كسرة الهاء، وورش والكسائي بغير همز وإشباع حركة كسرة الهاء، وابن كثير وهشام بالهمزة الساكنة وصلة الهاء مضمومة، وأبو عمرو بالهمزة وضم الهاء مقصورة، وابن ذكوان بالهمزة وكسر الهاء مقصورة، وعاصم وحمزة بغير همز وإسكان الهاء ﴿وابعث في المدائن حاشرين﴾ أي : رجالاً يحشرون السحرة، وأصل الحشر : الجمع بكره، وقيل : إنّ فرعون أراد قتل موسى فقالوا له لا تفعل فإنك إن تقتله دخلت الناس شبهة في أمره، ولكن أخره واجمع له سحرة ليقاوموه ولا يثبت له عليك حجة، وعارضوا قوله ﴿إنّ هذا الساحر عليم﴾ (الأعراف : ١٠٩)
بقولهم :
﴿يأتوك بكل سحار﴾ أي : بليغ في السحر، فجاؤوا بكلمة الإحاطة وصيغة المبالغة ليطمأنوا من نفسه ويسكنوا من بعض قلقه ﴿عليم﴾ أي : متناه في العلم به بعدما تناهى في السحرية، وعبر بالبناء للمفعول في قوله.
﴿فجمع السحرة﴾ إشارة إلى عظمة ملكه، أي : بأيسر أمر لما له عندهم من العظمة ﴿لميقات يوم معلوم﴾ أي : في زمانه ومكانه وهو ضحى يوم الزينة كما مرّ في طه، وعن ابن عباس : وافق يوم السبت من أول يوم من سنتهم وهو يوم النيروز.
﴿وقيل﴾ أي : يقول من يقبل لكونه عن فرعون ﴿للناس﴾ أي : عامّة وقوله ﴿هل أنتم مجتمعون﴾ فيه استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه استعجالهم واستحثاثهم كما يقول الرجل لغلامه هل أنت منطلق إذا أراد أن يحرك منه ويحثه على الانطلاق، كأنما يخيل له أنّ الناس قد انطلقوا وهو واقف، ومنه قول تأبط شراً، اسم شاعر :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ** أو عبد رب أخا عون بن مخراق*
٤٩
أي : هل أنت حث على إرسال دينار أو عبد رب، اسمي رجلين، والثاني منصوب على محل الأوّل، وأخا عون منادى أو عطف بيان له، وعليه اقتصر الكشاف.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦
﴿لعلنا نتبع السحرة﴾ أي : في دينهم ﴿إن كانوا هم الغالبين﴾ أي : لموسى في دينه ولا نتبع موسى في دينه، وليس غرضهم اتباع السحرة وإنما الغرض الكلي أن لا يتبعوا موسى فساقوا الكلام مساق الكناية لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى، وقيل : أرادوا بالسحرة موسى وهارون وقالوا ذلك على طريق الاستهزاء وعبر بالفاء في قوله :