﴿فلما جاء السحرة﴾ أي : الذين كانوا في جميع بلاد مصر إيذاناً بسرعة حشرهم لضخامة ملكه ووفور عظمته ﴿قالوا لفرعون﴾ مشترطين الأجر في حال الحاجة إلى الفعل ليكون ذلك أجدر بحسن الوعد ومجاز القصد ﴿آئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين﴾ موسى، وأتوا بأداة الشك مع جزمهم بالغلبة تخويفاً له بأنه إن لم يحسن في وعدهم لم ينصحوا له.
﴿قال﴾ مجيباً إلى ما سألوا ﴿نعم﴾ لكم ذلك، وقرأ الكسائي بكسر العين، والباقون بالفتح وزادهم بما لا أحسن منه عند أهل الدنيا مؤكداً بقوله ﴿وإنكم إذاً﴾ أي : إذا غلبتم ﴿لمن المقربين﴾ أي : عندي، وزاد إذاً هنا زيادة في التأكيد، ولما قال لهم فرعون ذلك قالوا لموسى ﴿إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين﴾ (الأعراف،
٥٠
١١٥).
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠
قال لهم موسى﴾ أي : مريداً لإبطال سحرهم لأنه لا يتمكن منه إلا بإلقاءهم ﴿ألقوا ما أنتم ملقون﴾ فإن قيل : كيف أمرهم بفعل السحر ؟
أجيب : بأنه لم يرد بذلك أمرهم بالسحر والتمويه بل الأذن بتقديم ما هم فاعلوه لا محالة توسلاً به إلى إظهار الحق.
﴿فألقوا﴾ أي : فتسبب عن قول موسى ج وتعقبه أن ألقوا ﴿حبالهم وعصيهم﴾ أي : التي أعدّوها للسحر ﴿وقالوا﴾ مقسمين ﴿بعزة فرعون﴾ وهي من أيمان الجاهلية، وهكذا كل حلف بغير الله، ولا يصح في الإسلام إلا الحلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته كقولك والله والرحمن ورب العرش وعزة الله وقدرة الله وجلال الله وعظمة الله، قال رسول الله ﷺ "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالطواغيت ولا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون" ولقد استحدث الناس في هذا الباب في إسلامهم جاهلية نسبت لها الجاهلية الأولى، وذلك أن الواحد منهم لو أقسم بأسماء الله كلها وصفاته على شيء لم يقبل منه ولم يعتد بها حتى يقسم برأس سلطانه، فإذا أقسم به فتلك عندهم جهد اليمين التي ليس وراءها حلف لحالف، ثم إنهم أكدوا يمينهم بأنواع من التوكيد بقولهم :﴿إنا لنحن﴾ أي : خاصة لا نستثني ﴿الغالبون﴾ وذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.
﴿فألقى﴾ أي : فتسبب عن صنع السحرة وتعقبه أن ألقى ﴿موسى عصاه﴾ التي جعلت آية له وتسبب عن إلقائه قوله تعالى :﴿فإذا هي تلقف﴾ أي : تبتلع في الحال بسرعة وهمة ﴿ما يأفكون﴾ أي : ما يقلبونه عن وجهه وحقيقته بسحرهم وكيدهم ويزوّرونه فيخيلون في حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى بالتمويه على الناظرين أو إفكهم، سمى تلك الأشياء إفكاً مبالغة، وقرأ حفص بسكون اللام وتخفيف القاف، وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد القاف، وشدّد البزي التاء في الوصل وخففها الباقون.
﴿فألقى السحرة﴾ أي : عقب فعلها من غير تلبث ﴿ساجدين﴾ أي : فسجدوا بسرعة عظيمة حتى كأن ملقياً ألقاهم من قوة إسراعهم علماً منهم بأنّ هذا من عند الله فأمسوا أتقياء بررة بعدما جاؤوا في صبح ذلك اليوم سحرة كفرة.
روي أنهم قالوا إن يك ما جاء به موسى سحراً فلن نغلب وإن يك من عند الله فلن يخفى علينا، فلما قذف عصاه فتلقفت ما أتوا به علموا أنه من عند الله فآمنوا. وعن عكرمة أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، وإنما عبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاآت فسلك به طريقة المشاكلة، وفيه أيضاً : مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحاً، فإن قيل : فاعل الإلقاء ما هو لو صرح به ؟
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠
أجيب : بأنه الله تعالى بما خوّلهم من التوفيق أو إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة، قال الزمخشري : ولك أن لا تقدر فاعلاً لأنّ ألقوا بمعنى خرّوا وسقطوا، ولما كان كأنه قيل : هذا فعلهم فما كان قولهم : قيل.
﴿قالوا آمنا برب العالمين﴾ أي : الذي دعا
٥١
إليه موسى عليه السلام أول ما تكلم وقولهم :
﴿رب موسى وهارون﴾ عطف بيان لرب العالمين، لأنّ فرعون كان يدعي الربوبية وأرادوا أن يعذلوه، ومعنى إضافته إليهما في ذلك المقام أنه الذي دعا إليه موسى وهارون عليهما السلام، ولما آمن السحرة بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول قومه أنّ هؤلاء السحرة على كثرتهم وبصيرتهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون طريقهم، فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى من وجوه : أحدها : أن.
﴿قال آمنتم له﴾ أي : لموسى ﴿قبل أن آذن﴾ أي : أنا ﴿لكم﴾ فمسارعتكم إلى الإيمان به دالة على ميلكم إليه.
تنبيه : ههنا همزتان مفتوحتان، قرأ الجميع بإبدال الثانية ألفاً، وحقق الثانية حمزة والكسائي وشعبة، وسهلها الباقون غير حفص فإنه أسقط الأولى والثانية عنده هي المبدوء بها.