ثانيها : قوله ﴿إنه لكبيركم الذي علمكم السحر﴾ وهذا تصريح بما رمز به أولاً وتعريض منه بأنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى وقصروا في السحر ليظهروا أمر موسى وإلا ففي قوة السحر أن تفعلوا مثل ما يفعل.
ثالثها : قوله ﴿فلسوف تعلمون﴾ وهو وعيد وتهديد شديد، رابعها : قوله :
﴿لأقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف﴾ أي : يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى ﴿ولأصلبنكم أجمعين﴾ وهذا الوعيد من أعظم الإهلاكات، ثم إنهم أجابوا عن هذه الكلمات من وجهين : الأول : قولهم :
﴿قالوا لا ضير﴾ أي : لا ضرر علينا وخبر لا محذوف تقديره في ذلك ﴿إنا﴾ أي : بفعلك ذلك فينا إن قدّرك الله تعالى عليه ﴿إلى ربنا﴾ الذي أحسن إلينا بالهداية بعد موتنا بأي وجه كان ﴿منقلبون﴾ أي : راجعون في الآخرة، الثاني : قولهم :
﴿إنا نطمع﴾ أي : نرجو ﴿أن يغفر﴾ أي : يستر ستراً بليغاً ﴿لنا ربنا خطايانا﴾ أي : التي قدمناها على كثرتها ثم عللوا طمعهم مع كثرة الخطايا بقولهم :﴿أن كنا﴾ أي : كونا هو لنا كالجبلة ﴿أول المؤمنين﴾ أي : من أهل هذا المشهد أو من رعية فرعون أو من أهل زمانهم ولما ظهر من أمر فرعون ما شاهدوه وخيف أن يقع منه ببني إسرائيل وهم الذين آمنوا وكانوا في قوم موسى ج ما يؤدّى إلى الاستئصال أمره الله تعالى أن يسري بهم كما قال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠
وأوحينا﴾
أي : بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود ﴿إلى موسى أن أسر﴾ ليلاً ﴿بعبادي﴾ وذلك بعد سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوّاً وفساداً، وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون ووصل الهمزة بعدها من سرى، وقرأ الباقون بسكون النون وقطع الهمزة بعدها، ثم علل أمره له بالسير في الليل بقوله تعالى :﴿إنكم متبعون﴾ أي : لا تظنّ أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر بحري، والمراد : يوافقهم عند البحر، ولم يكتم إتباعهم عن موسى لعدم تأثره به، والمعنى : أني بنيت تدبير أمركم وأمرهم على أن تتقدّموا ويتبعوكم حتى يدخلوا مدخلكم ويسلكوا مسلككم من طريق البحر فأطبقه عليهم.
روي : أنه مات في تلك الليلة في كل بيت من بيوتهم ولد فاشتغلوا بموتاهم حتى خرج موسى بقومه. وروي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى أن أجمع بني إسرائيل كل أربعة أبيات في بيت ثم
٥٢
اذبحوا الجداء واضربوا بدمائها أبوابكم فإني سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم وآمرهم بقتل أبكار القبط واختبزوا خبزاً فطيراً فإنه أسرع لكم، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري، وروي أنّ قوم موسى قالوا لقوم فرعون إن لنا في هذه الليلة عيداً ثم استعاروا منهم حليهم بهذا السبب ثم خرجوا بتلك الأموال في الليل إلى جانب البحر، فلما سمع فرعون ذلك جمع قومه وتبعهم كما قال تعالى :
﴿فأرسل فرعون﴾ أي : لما أصبح وعلم بهم ﴿في المدائن حاشرين﴾ أي : رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم.
﴿إن هؤلاء﴾ إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا لما بهم من العجز وبآل فرعون من القوّة فليسوا بحيث يخاف قوتهم ﴿لشرذمة﴾ أي : طائفة وقطعة من الناس ﴿قليلون﴾ أي : بالنسبة إلى مالنا من الجنود التي لا تحصى فذكرهم أولاً بالاسم الدال على القلة بالشرذمة وهي الطائفة القليلة، ومنها قولهم : ثوب شرذم للذي بلي وتقطع قطعاً، ثم جعلهم قليلاً بالوصف ثم جمع القليل فجعل كل حزب منهم قليلاً واختار جمع السلامة الذي هو للقلة مع أنهم كانوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً وسماهم بشرذمة قليلين وذلك بالنسبة لما أرسله خلفهم، فإنّ الذي أرسله فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور ومع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم وكان مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وعن ابن عباس خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث فلذلك استقل قوم موسى، قال الزمخشري ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والقماءة ولا يريد قلة العدد، والمعنى : أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع عليهم غلبتهم وعلوّهم ولكنهم يفعلون أفعالاً تغيظنا وتضيق صدورنا، كما قال تعالى عنهم.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠
وإنهم لنا لغائظون﴾
أي : بما فجعونا به من أنفسهم وبما استعاروه من الزينة من الأواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة فلا رحمة في قلوبهم بجمعهم.
﴿وإنا لجميعٌ حذرون﴾ أي : من عادتنا الحذر والتيقظ واستعمال الحزم في الأمور فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه، وقرأ ابن ذكوان والكوفيون بألف بعد الحاء، والباقون بغير ألف، قال أبو عبيدة والزجاج : هما بمعنى واحد يقال رجل حذر وحذور وحاذر بمعنى، وقيل بل بينهما فرق فالحذر المتيقظ والحاذر الخائف.


الصفحة التالية
Icon