قيل : الأول للتجدّد لأنه اسم فاعل، والثاني : للثبات لأنه صفة مشبهة وقيل : الحاذر المتبلج الذي له شوكة، السلاح وهو أيضاً من الحذر لأنّ ذلك إنما يفعل حذراً، يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر وأنه يجزئه أربعة أجزاء : أحدها : لوزرائه وكتابه وجنده والثاني : لحفر الأنهار وعمل الجسور والثالث : له ولولده والرابع : يفرّق في المدن، فإن لحقهم ظلم أو ظمأ أو اشتجار أو فساد غلة أو موت عوامل قوّاهم به، ويروى أنه قصده قوم فقالوا نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا فأذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال فسأل عن مبلغ ما أنفقوه في خليجهم فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال : اطرحوها عليهم فإنّ الملك إذا استغنى بمال الرعية يعني رعيته افتقر، وإن الرعية إذا استغنت
٥٣
بمال ملكهم استغنى واستغنوا، ولما كان التقدير فأطاعوا أمره ونفروا على كل صعب وذلوا، عطف عليه قوله تعالى بما آل إليه أمرهم.
﴿فأخرجناهم﴾ أي : فرعون وجنوده بما لنا من القدرة من مصر ليلحقوا بموسى وقومه إخراجاً حثيثاً مما لا يسمع أحد بالخروج منه ﴿من جنات﴾ أي : بساتين كانت على جانبي النيل يحق لها أن تذكر ﴿وعيون﴾ أي : أنهار جارية في الدور من النيل، وقيل : عيون تخرج من الأرض لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر.
﴿وكنوز﴾ أي : أموال ظاهرة من الذهب والفضة وسميت كنوز لأنها لم يعط حق الله منها وما لم يعط حق الله تعالى منه فهو كنز وإن كان ظاهراً، قيل : كان لفرعون ثمانمائة ألف غلام كل غلام على فرس عتيق في عنق كل فرس طوق من ذهب ﴿ومقام﴾ من المنازل ﴿كريم﴾ أي : مجلس حسن للأمراء والوزراء بحقه اتباعهم، وعن الضحاك : المنابر وقيل : السرر في الحجال، وذكر بعضهم أنه كان إذا قعد على سريره وضع بين يديه ثلاثمائة كرسي من ذهب يجلس عليها الأشراف عليهم الأقبية من الديباج مخوصة بالذهب.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠
كذلك﴾
أي : أخرجنا كما وصفنا ﴿وأورثناها﴾ أي : تلك النعم السنية بمجرّد خروجهم بالقوّة وبعد إغراق فرعون وجنوده بالفعل ﴿بني إسرائيل﴾ أي : جعلناهم بحيث يرثونها لأنا لم نبق لهم مانعاً يمنعهم منها بعد أن كانوا مستعبدين بين أيدي أربابها، واستشكل إرثهم لها بالفعل لقوله تعالى في الدخان ﴿قوماً آخرين﴾ (الدخان، ٢٨)
وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى في ذلك المحل. بل قيل : إنّ بني إسرائيل لم يرجعوا إلى مصر بعد ذلك ولما وصف تعالى الإخراج وصف أثره بقوله تعالى : مرتباً عليه بالفعل وعلى الإيراث بالقوّة.
﴿فأتبعوهم﴾ أي : جعلوا أنفسهم تابعة لهم ﴿مشرقين﴾ أي : داخلين في وقت شروق الشمس بطلوعها صبيحة الليلة التي سار فيها بنو إسرائيل، ولولا تقدير العزيز العليم بخرق ذلك للعادة لم يكن ذلك على حكم العادة في أقل من عشرة أيام فإنه تعجز الملوك عن مثله، واستمرّوا إلى أن لحقوهم عند بحر القلزم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠
﴿فلما تراءى الجمعان﴾ أي : رأى كل منهما الآخر ﴿قال أصحاب موسى﴾ ضعفاً وعجزاً استصحاباً لما كانوا فيه عندهم من الذل، ولأنهم أقل منهم بكثير بحيث يقال إن طليعة آل فرعون كانت على عدد بني إسرائيل وذلك محقق لتقليل فرعون لهم، وكأنه عبر عنهم بأصحاب دون بني إسرائيل ؛ لأنه كان قد آمن كثير من غيرهم ﴿إنا لمدركون﴾ أي : يدركنا فرعون وقومه وقد صرنا بين سدّين العدّو وراءنا والبحر أمامنا ولا طاقة لنا بذلك.
﴿قال﴾ أي : موسى عليه السلام وثوقاً بوعد الله تعالى ﴿كلا﴾ أي : لا يدركونكم أصلاً، ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله ﴿إن معي ربي﴾ أي : بنصره فكأنهم قالوا وما عساه يفعل وقد وصلونا قال ﴿سيهدين﴾ أي : يدلني على طريق النجاة، روي : أن مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أين تذهب فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون قال : أمرت بالبحر ولعلي أؤمر بما أصنع.
﴿فأوحينا﴾ أي : فتسبب عن كلامه الدال على المراقبة أنا أوحينا ونوّه باسم الكليم جزاء له على ثقته به سبحانه وتعالى، فقال تعالى :﴿إلى موسى﴾ وفسر الوحي الذي فيه معنى القول بقوله تعالى :﴿أن اضرب بعصاك البحر﴾ أي : الذي أمامكم وهو بحر القلزم الذي يتوصل أهل مصر منه
٥٤
إلى الطور وإلى مكة المشرّفة وما والاها، وقيل : النيل، فضربه ﴿فانفلق﴾ بسبب ضربه لما ضربه امتثالاً لأمر ربه وصار اثني عشر فرقاً على عدد أسباطهم ﴿فكان كل فرق﴾ أي : جزء وقسم عظيم منه ﴿كالطود﴾ أي : الجبل في إشرافه وطوله وصلابته بعدم السيلان ﴿العظيم﴾ المتطاول في السماء الثابت في قعره لا يتزلزل لأنّ الماء كان منبسطاً في أرض البحر فلما انفلق وانكشف فيه الطريق انضم بعضه إلى بعض فاستطال وارتفع في السماء بين تلك الأجزاء مسالك سلكوها لم يبتل منها سرج الراكب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤


الصفحة التالية
Icon