ثانيها : أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة.
ثالثها : أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشيائ على صحة قوله تعالى :﴿إن إلهكم لواحد﴾ (الصافات : ٤)
عقبه بما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحد، وهو قوله تعالى :
﴿رب﴾ أي : موجد ومالك ومدبر ﴿السموات﴾ أي : الأجرام العالية ﴿والأرض﴾ أي : الأجرام السافلة ﴿وما بينهما﴾ أي : من الفضاء المشحون بما يعجز عن عده القوي، وذلك ؛ لأنه تعالى بين في قوله تعالى :﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ (الأنبياء : ٢٢)
أن انتظام أحوال السموات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال ﴿إن إلهكم لواحد﴾ أردفه بقوله ﴿رب السموات والأرض وما بينهما﴾ كأنه قيل : بينا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على أن الإله واحد فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
٤٥٠
تنبيه : علم من قوله تعالى ﴿وما بينهما﴾ أنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأن أعمالهم موجودة فيما بين السماء والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السماء والأرض، فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله تعالى، فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماء والأرض ؛ لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك ؟
أجيب : بأنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السموات والأرض ﴿ورب المشارق﴾ أي : والمغارب وجمعها باعتبار جميع السنة فإن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق وثلاثمئة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٨
وقيل : كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب كأنه أراد جميع ما أشرقت عليه الشمس.
وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ومغاربها ؛ لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، فإن قيل : إن الله تعالى قال في موضع ﴿رب المشرق والمغرب﴾ (الشعراء : ٢٨)
وقال في موضع آخر ﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ (الرحمن : ١٧)
فما الجمع بين هذه المواضع ؟
أجيب : بأن المراد بقوله ﴿رب المشرق والمغرب﴾ الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وبقوله تعالى :﴿رب المشرقين ورب المغربين﴾ مشرقا الشتاء والصيف ومغربا الشتاء والصيف وأما موضع الجمع فقد مر. فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟
أجيب : بوجهين.
الأول : أنه اكتفى به كقوله تعالى ﴿تقيكم الحر﴾ (النحل : ٨١)
والثاني : أن الشروق أقوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً منه فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بقوله ﴿إن الله يأتي بالشمس من المشرق﴾ (البقرة : ٢٥٨)
﴿إنا زينا﴾ أي : بعظمتنا التي لا تدانى ﴿السماء﴾ ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السموات وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال تعالى ﴿الدنيا﴾ أي : التي هي أدنى السموات إليكم ﴿بزينة الكواكب﴾ أي : بضوئها كما قاله ابن عباس أو بها، وقرأ عاصم وحمزة بزينة بالتنوين، والباقون بغير تنوين والإضافة للبيان كقراءة تنوين بزينة المبينة بالكواكب ونصب الياء الموحدة من الكواكب شعبة، وكسرها الباقون.
فإن قيل : قد ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات الستة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله تعالى ﴿إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب﴾ ؟
أجيب : بأن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إن نظروا إلى السماء الدنيا فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى ﴿إنا زينا السماء بزينة الكواكب﴾ وقوله تعالى :
﴿وحفظاً﴾ منصوب بفعل مقدر أي : حفظناها بالشهب أو معطوف على زينة باعتبار المعنى، كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً ﴿من كل شيطان﴾ أي : بعيد عن الخير محترق ﴿مارد﴾ أي : عات خارج عن الطاعة.
ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته استأنف قوله تعالى :
﴿لا
٤٥١
يسمعون﴾
أي : الشياطين المفهومون من كل شيطان ﴿إلى الملأ الأعلى﴾ أي : الملائكة أو أشرافهم في السماء، وعدى السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بفتح السين وتشديدها وتشديد الميم من التسمع وهو طلب السماع، وقرأ الباقون بسكون السين وتخفيف الميم ﴿ويقذفون﴾ أي : الشياطين يرمون بالشهب ﴿من كل جانب﴾ أي : من آفاق السماء وقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٨


الصفحة التالية
Icon