دحوراً} مصدر دحره أي : طرده وأبعده وهو مفعول له، وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل، وقيل : غير ذلك ﴿ولهم﴾ أي : في الآخرة ﴿عذاب﴾ غير هذا ﴿واصب﴾ أي : دائم، وقال مقاتل : أي : دائم في الدنيا إلى النفخة الأولى وقوله تعالى :
﴿إلا من خطف﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير لا يسمعون وهو أحسن ؛ لأنه غير موجب. والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف، وقوله تعالى :﴿الخطفة﴾ مصدر معرف بأل الجنسية أو المعرفة ومعنى اختطف اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة ﴿فاتبعه﴾ أي : لحقه ﴿شهاب﴾ أي : كوكب ﴿ثاقب﴾ أي : مضيء قوي لا يخطئه يقتله أو يحرقه أو يثقبه أو يخبله.
تنبيه : ههنا سؤالات :
أولها : أن هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا ؟
والأول : باطل ؛ لأنها تبطل وتضمحل فلو كانت تلك الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير البتة، وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء الدنيا فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض، وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مشكل ؛ لأنه تعالى قال في سورة الملك ﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشيطانين﴾ (الملك : ٥)
فالضمير في قوله ﴿وجعلناها﴾ عائد على المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي المرجوم بها بأعيانها.
ثانيها : كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة ؟
وهل يمكن أن يصدر هذا الفعل من عاقل ؟
فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة ؟
ثالثها : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي ﷺ ولذلك ترى الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي ﷺ بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي ﷺ امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم
رابعها : الشيطان مخلوق من النار كما حكى عن قول إبليس لعنه الله تعالى ﴿خلقتني من نار﴾ (الأعراف : ١٢)
وقال تعالى ﴿والجان خلقناه من قبل من نار السموم﴾ (الحجر : ٢٧)
ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٨
أجيب عن الأول : بأن هذه الشهب غير تلك الكواكب الثابتة وأما قوله تعالى ﴿ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين﴾ (الملك : ٥)
فنقول : كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا
٤٥٢
يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبها يزول الإشكال.
وعن الثاني : بأن هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها بين الشياطين وأجاب أبو علي الجبائي : بأن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى موضع الملائكة ومواضعها مختلفة، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب، وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب، فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم الشهب فيها، كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة، وفي جواب أبي علي نظر : إذ ليس في السماء موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.
وعن الثالث : بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي ﷺ لكن بقلة، ولما جاء النبي ﷺ وقعت بكثرة فصارت بسبب الكثرة معجزة.
وعن الرابع : بأن الشياطين ليسوا من نار خالصة وعلى التنزل بأنهم من النيران الخالصة إلا أنها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم فلا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضعف، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ ؟
فكذلك ههنا.
ولما كان المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر افتتح الله سبحانه هذه السورة بإثبات ما يدل على الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أشق وأصعب وجب أن يقدر على ما هو دونه، وهو قوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon