﴿فاستفتهم﴾ أي : سل كفار مكة أن يفتوك بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث وأصله من الفتوة وهي الكرم ﴿أهم أشد﴾ أي : أقوى وأشق وأصعب ﴿خلقاً﴾ أي : من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها ﴿أم من خلقنا﴾ أي : من الملائكة والسموات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٨
تنبيه : في الإتيان بمن تغليب للعقلاء وهو استفهام بمعنى التقرير أي : هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله تعالى ﴿لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس﴾ (غافر : ٥٧)
وقوله تعالى ﴿أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها﴾ (النازعات : ٢٧)
وقيل : معنى أم من خلقنا أي : من الأمم الماضية ؛ لأن لفظ من يذكر لمن يعقل ؛ والمعنى : أن هؤلاء الأمم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم الخالية وقد أهلكناهم بذنوبهم فمن الذي يؤمن هؤلاء من العذاب ﴿إنا خلقناهم﴾ أي : أصلهم آدم بعظمتنا ﴿من طين﴾ أي : تراب رخو مهين ﴿لازب﴾ أي : شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وخمر بحيث يعلق باليد وقال مجاهد والضحاك : منتن فهو مخلوق من غير أب ولا أم وقرأ حمزة والكسائي :
﴿بل عجبت﴾ بضم التاء والباقون بفتحها، أما بالضم فبإسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين كما قال تعالى ﴿فيسخرون منهم سخر الله منهم﴾ (التوبة : ٧٩)
وقال تعالى ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ (التوبة : ٦٧)
فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه، والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما في
٤٥٣
الحديث :"عجب ربكم من شاب ليست له صبوة" وفي حديث آخر :"عجب ربكم من الكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم" قوله الكم الألّ أشد القنوط.
وقيل : هو رفع الصوت بالبكا، وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله ﷺ فلما عجب رسوله قال تعالى ﴿وإن تعجب فعجب قولهم﴾ (الرعد : ٥)
أي : هو كما تقوله، وأما الفتح فعلى أنه خطاب للنبي ﷺ أي : عجبت من تكذيبهم إياك.
﴿ويسخرون﴾ أي : وهم يسخرون من تعجبك قال قتادة : عجب نبي الله ﷺ من هذا القرآن حين أنزل ومن ضلال بني آدم، وذلك أن النبي ﷺ كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي ﷺ فقال تعالى ﴿بل عجبت ويسخرون﴾.
﴿وإذا ذكروا﴾ أي : وعظوا بالقرآن ﴿لا يذكرون﴾ أي : لا يتعظون.
﴿وإذا رأوا آية﴾ قال ابن عباس وقتادة : يعني انشقاق القمر ﴿يستسخرون﴾ أي : يستهزئون بها وقيل : يستدعي بعضهم من بعض السخرية.
﴿وقالوا إن﴾ أي : ما ﴿هذا إلا سحر مبين﴾ أي : ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته ثم خصّوا البعث بالإنكار إعلاماً بأنه أعظم مقصود بالنسبة إلى السحر فقالوا مظهرين له في مظهر الإنكار :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٨
أءذا متنا﴾
وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا ﴿وكنا﴾ أي : كوناً في غاية التمكن ﴿تراباً﴾ وقدموه ؛ لأنه أدل على مرادهم ؛ لأنه أبعد عن الحياة ﴿وعظاماً﴾ كأنهم جعلوا كل واحد من الموت أو الكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة والمختلطة بهما مانعاً من البعث، وهذا بعد اعترافهم بأن ابتداء خلقهم كان من التراب، ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به كما سيأتي بيانه زيادة في الإنكار فقالوا ﴿أئنا لمبعوثون﴾.
وقولهم ﴿أو آباؤنا الأولون﴾ عطف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون فإنه مفصول عنه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم، وهذا بيان للسبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط بالأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم، فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حياً ؟
ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿نعم﴾ أي : تبعثون على كل تقدير قدرتموه ﴿وأنتم داخرون﴾ أي : مكرهون عليه صاغرون ذليلون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب ؛ لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق، فلما قامت المعجزة على صدق محمد ﷺ كان واجب الصدق فكان مجرد قوله ﴿نعم﴾ دليلاً قاطعاً على الوقوع، وقرأ ﴿متنا﴾ بضم الميم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة، وكسرها الباقون.
وأما ﴿أءذا﴾ و﴿أئنا﴾ فقرأ نافع والكسائي بالاستفهام في الأول والخبر في الثاني وابن عامر
٤٥٤


الصفحة التالية
Icon