﴿بل هم اليوم مستسلمون﴾ قال ابن عباس : خاضعون وقال الحسن : منقادون يقال : استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، والمعنى : هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم في دفع تلك المضار.
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بأنهم سئلوا فلم يجيبوا ربما كان يظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد تكذيبهم فقال عاطفاً على قوله تعالى :﴿وقالوا يا ويلنا﴾ (الصافات : ٢٠)
﴿وأقبل بعضهم﴾ أي : الذين ظلموا ﴿على بعض﴾ أي : بعد إيقافهم لتوبيخهم وعبر عن خصامهم تهكماً بقوله تعالى :﴿يتساءلون﴾ أي : يتلاومون ويتخاصمون.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٦
قالوا﴾
أي : الأتباع منهم للمتبوعين ﴿إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين﴾ قال الضحاك : أي : من قبل الدين فتضلوننا عنه، وقال مجاهد : عن الصراط الحق واليمين عبارة الدين الحق كما أخبر الله تعالى عن إبليس لعنه الله تعالى ﴿ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم﴾ (الأعراف : ١٧)
فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات، لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر، قال ابن عادل : لا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيسر و"كان ﷺ يحب التيامن في شأنه
٤٥٦
كله"، وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين، ووعد الله تعالى المؤمن أن يعطيه الكتاب باليمين، وقيل : إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم، وقيل : عن اليمين عن القوة والقدرة كقوله تعالى :﴿لأخذنا منه باليمين﴾ (الحاقة : ٤٥)
﴿قالوا﴾ أي : المتبوعون لهم ﴿بل لم تكونوا مؤمنين﴾ أي : وإنما يصدق الإضلال منا أن لو كنتم مؤمنين فرجعتم عن الإيمان إلينا وإنما الكفر من قبلكم.
﴿وما كان لنا عليكم من سلطان﴾ أي : قوة وقدرة حتى نقهركم ونجبركم على متابعتنا ﴿بل كنتم قوماً طاغين﴾ أي : ضالين مثلنا.
﴿فحق﴾ أي : وجب ﴿علينا﴾ جميعاً ﴿قول ربنا﴾ أي : كلمة العذاب وهو قوله تعالى ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ (هود : ١١٩)
﴿إنا﴾ أي : جميعاً ﴿لذائقون﴾ أي : العذاب بذلك القول ونشأ عنه قولهم :
﴿فأغويناكم﴾ أي : فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ﴿إنا كنا غاوين﴾ أي : ضالين فأحببتم أن تكونوا مثلنا، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية بإغواء غاوٍ فمن أغوى الأول قال الله تعالى :
﴿فإنهم﴾ أي : المتبوعين والأتباع ﴿يومئذ﴾ أي : يوم القيامة ﴿في العذاب مشتركون﴾ أي : كما كانوا مشتركين في الغواية.
﴿إنا﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿كذلك﴾ أي : كما نفعل بهؤلاء ﴿نفعل بالمجرمين﴾ غير هؤلاء أي : نعذبهم التابع منهم والمتبوع ثم وصفهم الله تعالى بقوله :
﴿إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون﴾ أي : يتكبرون عن كلمة التوحيد أو عمن يدعوهم إليها.
﴿ويقولون أئنا﴾ في الهمزتين ما مر ﴿لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون﴾ يعنون محمداً ﷺ ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٦
بل جاء بالحق﴾
أي : الدين الحق ﴿وصدق المرسلين﴾ أي : صدقهم في مجيئهم بالتوحيد فأتى بما أتى به المرسلون من قبله ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال تعالى :
﴿إنكم لذائقو العذاب الأليم﴾ ثم كأنه قيل : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي الغني عن الضر والنفع أن يعذب عباده ؟
فأجاب بقوله تعالى :
﴿وما تجزون إلا ما كنتم تعملون﴾ أي : جزاء عملكم وقوله تعالى :
﴿إلا عباد الله المخلصين﴾ أي : المؤمنين استثناء منقطع، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام بعد الخاء أي : إن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله، والباقون بالكسر أي : إنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى وقوله :
﴿أولئك لهم﴾ أي : في الجنة ﴿رزق معلوم﴾ أي : بكرة وعشياً بيان لحالهم وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غدوة أو عشية، وقيل : معلوم الصفة أي : مخصوص بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر، وقيل معناه : أنهم يتقينون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع، وقيل : معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى وقوله :
﴿فواكه﴾ يجوز أن يكون بدلاً من رزق، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك الرزق
٤٥٧
فواكه وفي الفواكه جمع فاكهة قولان :
أحدهما : أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه ؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فعلى سبيل التلذذ.
والثاني : أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى أي : لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.
﴿وهم مكرمون﴾ أي : في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال لا كما عليه رزق الدنيا.
ولما ذكر مأكلهم ذكر مسكنهم بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon