﴿في جنات النعيم﴾ أي : في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو متعلق بمكرمون أو خبر ثان لأولئك أو حال من المستكن في مكرمون وقوله تعالى :
﴿على سرر متقابلين﴾ أي : لا يرى بعضهم قفا بعض حال، ويجوز أن يتعلق على سرر بمتقابلين، ولما ذكر سبحانه وتعالى المأكل والمسكن ذكر بعد ذلك صفة المشرب بقوله تعالى :
﴿يطاف عليهم﴾ أي : على كل منهم ﴿بكأس﴾ أي : بإناء فيه خمر فهو اسم للإناء بشرابه فلا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب وإلا فهو إناء، وقيل : المراد بالكأس : الخمر كقول الشاعر :
*وكأس شربت على لذة ** وأخرى تداويت منها بها
أي : رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها، والكأس مؤنثة كما قاله الجوهري، وقوله تعالى ﴿من معين﴾ أي : من شراب معين أو من نهر معين مأخوذ من عين الماء أي : يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي عيناً لظهوره يقال : عان الماء إذا ظهر جارياً وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٦
بيضاء﴾
أي : أشد بياضاً من اللبن قاله الحسن صفة لكأس، وقال أبو حيان : صفة لكأس أو للخمر، واعترض بأن الخمر لم يذكر، وأجيب عنه : بأن الكأس إنما سميت كأساً إذا كان فيها الخمر وقوله تعالى ﴿لذة﴾ صفة أيضاً وصفه بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال : فلان جود وكرم إذا كان المراد المبالغة، وقال الزجاج : أو على حذف المضاف أي : ذات لذة وقوله تعالى ﴿للشاربين﴾ أي : بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب صفة للذة، وقال الليث : اللذة واللذيذة يجريان مجرى واحد في النعت يقال : شراب لذ ولذيذ وقوله تعالى :
﴿لا فيها غول﴾ صفة أيضاً، واختلف في الغول فقال الشعبي أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقال الكلبي : معناه الإثم أي : لا إثم فيها، وقال قتادة : وجع البطن، وقال الحسن : صداع، وقال أهل المعاني الغول : فساد يلحق في خفاء يقال : اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل منها أنواع الفساد منها السكر وذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة ﴿ولا هم عنها ينزفون﴾ أي : يسكرون، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف الشارب إذا نزف عقله من السكر، والباقون بفتحها من نزف الشارب نزيفاً إذا ذهب عقله أفرده بالذكر وعطفه على ما يعمه ؛ لأنه من عظم فساده
٤٥٨
كأنه جنس برأسه.
ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم بقوله تعالى :
﴿وعندهم قاصرات الطرف﴾ أي : حابسات الأعين غاضات الجفون قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن وقوله تعالى ﴿عين﴾ جمع عيناء وهي الواسعة العين والذكر أعين قال الزجاج : كبار الأعين حسانها يقال : رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.
﴿كأنهن﴾ أي : في اللون ﴿بيض﴾ للنعام ﴿مكنون﴾ أي : مستور بريشه لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة يقال : هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة مشربة بصفرة قال ذو الرمة في ذلك :
*بيضاء في ترح صفراء في غنج ** كأنها فضة قد مسها ذهب*
قال المبرد : والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة، وقال بعضهم : إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء فقال :
*تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى ** بهن اختلافاً بل أتين على قدر*
ويجمع البيض على بيوض قال الشاعر :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٦
بتيهاء قفر والمطي كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها*
﴿فأقبل بعضهم﴾ أي : بعض أهل الجنة ﴿على بعض يتساءلون﴾ معطوف على يطاف عليهم أي : يشربون فيتحادثون على الشراب قال القائل :
*وما بقيت من اللذات إلا ** محادثة الكرام على المدام*
وأتى بقوله تعالى :﴿فأقبل﴾ ماضياً لتحقق وقوعه كقوله تعالى ﴿ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار﴾ (الأعراف : ٤٤)
وقوله تعالى ﴿يتساءلون﴾ حال من فاعل أقبل وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
ولما ذكر تعالى أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشراب ويتحدثون كان من جملة كلماتهم أنهم يتذكرون ما كان حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله تعالى ثم إنهم تخلصوا منه وهو ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله :
﴿قال قائل منهم﴾ أي : من أهل الجنة في الجنة في مكالمتهم ﴿إني كان لي قرين﴾ أي : في الدنيا ينكر البعث.
٤٥٩
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٥٦
﴿يقول أءِنك لمن المصدقين﴾ أي : كان يوبخني على التصديق بالبعث ويقول تعجباً.
﴿أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمدينون﴾ أي : مجزيون ومحاسبون من الدين بمعنى الجزاء وهذا استفهام إنكار.


الصفحة التالية
Icon