التمر والزبد الزقوم، ثم أدخلهم أبو جهل بيته وقال لجاريته : زقمينا فأتته بزبد وتمر وقال : تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد، وهذا عناد منه وكذب فإنه من العرب العرباء وهم إنما يطلقونه على شجرة مسمومة يخرج لها لبن متى مس جسم أحد تورم فمات، والتزقم البلع الشديد للأشياء الكريهة وأما الزبد بالرطب فيسمى : ألوقة قاله ابن الكلبي وأنشد :
*وإني لمن سالمتهم لألوقة ** وإني لمن عاديتهم سم أسود*
ثم إن الله تعالى وصف هذه الشجرة بصفتين : الأولى : قوله تعالى :
﴿إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم﴾ قال الحسن : أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
الصفة الثانية قوله تعالى :
﴿طلعها﴾ أي : ثمرها قال الزمخشري : الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية قال ابن قتيبة : سمي طلعاً لطلوعه كل سنة فكذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره ثم وصف ذلك الطلع بقوله تعالى :﴿كأنه رؤوس الشياطين﴾ وفيه وجهان : أحدهما : أنه حقيقة وأن رؤوس الشياطين شجرة معينة بناحية اليمن وتسمى : الأستن قال النابغة :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٠
تحيد عن أستن سود أسافله ** مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما*
وهو شجر منكر الصورة مر، تسميه العرب بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به، وقيل : الشياطين صنف من الحيات لهن أعراف قال الراجز :
*عنجرد تحلف حين أحلف ** كمثل شيطان الحماط أعرف*
وقيل : شجرة يقال لها : الصوم ومنه قول ساعدة بن حربة :
*موكل بسروف الصوم يرقبها ** من المعارف محفوظ الحشا ورم*
فعلى هذا خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة.
والثاني : أنه من باب النخيل والتمثيل، وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يكن يراه، والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخيلية وذلك كقول امرئ القيس :
٤٦٢
*أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال*
ولم ير أنيابها بل ليست موجودة البتة قال الرازي : وهذا هو الصحيح وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة عليهم السلام كمال الفضل في الصورة والسيرة فكما حسن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النسوة ﴿إن هذا إلا ملك كريم﴾ (يوسف : ٣١)
فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً حسناً قالوا : إنه ملك من الملائكة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الشياطين بأعيانهم.
﴿فإنهم﴾ أي : الكفار ﴿لآكلون منها﴾ أي : من الشجرة أو من طلعها ﴿فمالئون منها البطون﴾ والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، فإن قيل : كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها ؟
أجيب : بأن المضطر ربما استروح من الضرر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله تعالى الجوع الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء، أو يقال : إن الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة لعذابهم.
ولما ذكر الله تعالى طعامهم بتلك الشناعة والكراهية وصف شرابهم بما هو أشنع منه بقوله تعالى :
﴿ثم إن لهم عليها﴾ أي : بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش ﴿لشوباً من حميم﴾ أي : ماء حار يشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوباً، وعطف بثم لأحد معنيين : إما لأنه يؤخر ما يظنونه يرويهم من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى بثم المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقتضي تراخي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المنوال، وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء قال الزجاج : الشراب اسم عام في كل ما خلط بغيره والشوب الخلط والمزج ومنه شاب اللبن يشوبه أي : خلطه ومزجه.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٠
ثم إن مرجعهم﴾ أي : مصيرهم ﴿لإلى الجحيم﴾ قال مقاتل : أي : بعد أكل الزقوم وشرب الحميم وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يردون الحميم لأجل الشرب كما ترد الإبل الماء ويدل عليه قوله تعالى ﴿يطوفون بينها وبين حميم آن﴾ (الرحمن : ٤٤)
وقوله تعالى :
﴿إنهم ألفوا﴾ أي : وجدوا ﴿آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون﴾ تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد قال الفراء : الإهراع الإسراع يقال : هرع وأهرع إذا استحث والمعنى : أنهم يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث، ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ﷺ ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم يقوله سبحانه :
﴿ولقد ضل قبلهم﴾ أي : قبل قومك ﴿أكثر الأولين﴾ أي : من الأمم الماضية.