﴿ولقد أرسلنا فيهم منذرين﴾ أي : أنبياء أنذروهم من العواقب فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له ﷺ أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ويستمر
٤٦٣
على الدعاء إلى الله تعالى وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال، والباقون بالإدغام ثم قال تعالى :
﴿فانظر كيف كان عاقبة المنذرين﴾ أي : الكافرين كان عاقبتهم العذاب وهذا خطاب وإن كان ظاهره مع النبي ﷺ إلا أن المقصود منه خطاب الكفار ؛ لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوفه يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم وقوله تعالى :
﴿إلا عباد الله المخلصين﴾ استثناء من المنذرين استثناء منقطع ؛ لأنه وعيد وهم لا يدخلون في هذا الوعيد، وقيل : استثناء من قوله تعالى ﴿ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين﴾ والمراد بالمخلصين : الموحدون نجوا من العذاب وتقدمت القراءة في المخلصين، ثم شرع تعالى في تفصيل القصص بعد إجمالها بقوله تعالى :
﴿ولقد نادانا نوح﴾ أي : نادى ربه أن ينجيه مع من نجي من الغرق بقوله : رب إني مغلوب فانتصر فأجاب الله تعالى دعاءه وقوله تعالى ﴿فلنعم المجيبون﴾ جواب قسم مقدر أي : فوالله ومثله : لعمري لنعم السيدان وجدتما، والمخصوص بالمدح محذوف أي : نحن أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه.
﴿ونجيناه وأهله من الكرب العظيم﴾ أي : من الغرق وأذى قومه وهذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه أولها : أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال :﴿ولقد نادانا نوح﴾ فالقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٠
وثانيها : أنه تعالى أعاد صيغة الجمع فقال تعالى ﴿فلنعم المجيبون﴾ وفي ذلك أيضاً ما يدل على تعظيم تلك النعمة لا سيما وقد وصف الله تعالى تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة.
وثالثها : أن الفاء في قوله تعالى ﴿فلنعم المجيبون﴾ تدل على أن حصول تلك الإجابة مرتب على ذلك النداء وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة وقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٠
﴿وجعلنا ذريته هم الباقين﴾ يفيد الحصر، وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا فالناس كلهم من نسله عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنه : ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزرج ويأجوج ومأجوج وما هنالك قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم.
﴿وتركنا عليه في الآخرين﴾ أي : أبقينا له ثناء حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، وقيل : أن نصلي عليه إلى يوم القيامة وقوله تعالى :
﴿سلام على نوح﴾ مبتدأ وخبر وفيه أوجه أحدها : أنه مفسر لتركنا، والثاني : أنه مفسر لمفعوله أي : تركنا عليه ثناء وهو هذا الكلام، وقيل : ثم قول مقدر أي : فقلنا سلام وقيل : ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل : سلط تركنا على ما بعده ﴿في العالمين﴾ متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٤
إنا كذلك نجزي المحسنين﴾ تعليل لما فعل بنوح عليه السلام من التكرمة بأنه مجازاة له أي : إنما خصصناه بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن ترقية ذكره
٤٦٤
الحسن في ألسنة العالمين لأجل كونه محسناً وقوله تعالى :
﴿إنه من عبادنا المؤمنين﴾ تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره.
﴿ثم أغرقنا الآخرين﴾ كفار قومه.
القصة الثانية : قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿وإن من شيعته﴾ أي : ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة ﴿لإبراهيم﴾ ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالباً، وقال الكلبي : الضمير يعود على محمد ﷺ أي : وإن من شيعة محمد ﷺ لإبراهيم عليه الصلاة السلام والشيعة قد تطلق على المتقدم كقول القائل :
*ومالي إلا آل أحمد شيعة ** وما لي إلا مذهب الحق مذهب"*
فجعل آل أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له قاله الفراء، والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر قالوا : كان بين نوح وإبراهيم نبيان هود وصالح، وروى الزمخشري : أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة وفي العامل في قوله تعالى :