سادسها : قال الرازي : قال بعضهم : ذلك القول من إبراهيم عليه السلام كذبة وأوردوا فيه حديثاً عن النبي ﷺ أنه قال :"ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات" قلت : ولبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل ؛ إذ فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام فقال ذلك الرجل : فكيف نحكم بكذب الراوي العدل ؟
فقلت له : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبة الكذب إلى الراوي أولى، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله ﴿فنظر نظرة في النجوم﴾ أي : نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة
٤٦٦
يقال : إنها منجمة أي : مفرقة ومنه نجوم المكاتب والمعنى : أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذراً أحسن من قوله :﴿إني سقيم﴾ والمراد : أنه لا بد من أن يصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر إنك مسافر.
ولما قال :﴿إني سقيم﴾ تولوا عنه كما قال تعالى :
﴿فتولوا عنه﴾ أي : إلى عيدهم ﴿مدبرين﴾ أي : هاربين مخافة العدوى وتركوه وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
﴿فراغ﴾ أي : مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ولا يقال : راغ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه ﴿إلى آلهتهم﴾ وعندها الطعام ﴿فقال﴾ استهزاء بها ﴿ألا تأكلون﴾ أي : الطعام الذي كان بين أيديهم فلم ينطقوا فقال استهزاء بها أيضاً :
﴿ما لكم لا تنطقون﴾ فلم تجب.
﴿فراغ عليهم﴾ أي : مال عليهم مستخفياً وقوله تعالى ﴿ضرباً﴾ مصدر واقع موقع الحال أي : فراغ عليهم ضارباً أو مصدر لفعل، وذلك الفعل حال تقديره فراغ يضرب ضرباً وقوله تعالى :﴿باليمن﴾ متعلق بضرباً إن لم نجعله مؤكداً وإلا فبعامله، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر، وأن يراد بها القوة واقتصر عليه الجلال المحلي فالباء على هذا للحال أي : متلبساً بالقوة وأن يراد بها الحلف وفاء بقوله ﴿وتالله لأكيدن أصنامكم﴾ (الأنبياء : ٥٧)
والباء على هذا للسبب وعدى راغ الثاني بعلى لما كان مع الضرب المستولي من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله تعالى :﴿عليهم ضرباً﴾ على ظن عبدتها أنها كالعقلاء ثم إنه عليه السلام كسرها فبلغ قومه من ورائه ذلك.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٤
فأقبلوا إليه﴾ أي : إلى إبراهيم بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة ﴿يزفون﴾ أي : يسرعون المشي، وقرأ حمزة بضم الياء على البناء للمفعول من أزفه أي : يحملون على الزفيف، والباقون بفتحها من زف يزف فقالوا : نحن نعبدها وأنت تكسرها.
﴿قال﴾ لهم توبيخاً ﴿أتعبدون ما تنحتون﴾ أي : من الحجارة وغيرها أصناماً.
﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ أي : نحتكم ومنحوتكم فاعبدوه وحده.
تنبيه : دلت هذه الآية على مذهب الأشعرية وهو أن فعل العبد مخلوق لله عز وجل وهو الحق وذلك ؛ لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله تعالى ﴿وما تعملون﴾ معناه وعملكم وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم.
ولما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء لئلا يظهر للعامة عجزهم بأن :
﴿قالوا ابنوا له بنياناً﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : بنوا حائطاً من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملؤوه ناراً فطرحوه فيها وذلك هو قوله تعالى ﴿فألقوه في الجحيم﴾ وهي النار العظيمة قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.
﴿فأرادوا به كيداً﴾ أي : شراً بإلقائه في النار لتهلكه ﴿فجعلناهم الأسفلين﴾ أي : المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم وجعلنا ذلك برهاناً نيراً على علو شأنه حيث جعلنا النار عليه برداً وسلاماً وخرج منها سالماً.
﴿وقال إني ذاهب إلى ربي﴾ أي : إلى حيث أمرني ربي ونظيره قوله تعالى ﴿وقال إني مهاجر
٤٦٧
إلى ربي﴾ (العنكبوت : ٢٦)
أي : مهاجر إليه من دار الكفر ﴿سيهدين﴾ أي : إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وهو الشام، وإنما بتّ القول لسبق وعده ولفرط توكله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث قال ﴿عسى ربي أن يهديني سواء السبيل﴾ (القصص : ٢٢)
فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
ولما وصل إلى الأرض المقدسة قال :
﴿رب هب لي من الصالحين﴾ أي : هب لي ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة ؛ لأن لفظ هب غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى ﴿ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبياً﴾ (مريم : ٥٣)
قال الله تعالى :
﴿فبشرناه بغلام حليم﴾ أي : ذي حلم كثير في كبره غلام في صغره، ففيه بشارة بأنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سن يوصف بالحلم وأي حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال :﴿ستجدني إن شاء الله من الصابرين﴾ (الصافات : ١٠٢)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٦٤