﴿وأما من أوتي كتابه بشماله﴾ (الحاقة : ٢٥)
﴿ربنا﴾ أي : يا أيها المحسن إلينا ﴿عجل لنا قطنا﴾ أي : كتاب أعمالنا في الدنيا ﴿قبل يوم الحساب﴾ وقال سعيد بن جبير : يعنون حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول، وقال مجاهد والسدي : يعنون عقوبتنا ونصيبنا من العذاب، قال عطاء : قاله النضر ابن الحارث وهو قوله :﴿إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء﴾ (الأنفال : ٣٢)
وقال مجاهد : قطنا حسابنا، يقال لكتاب الحساب : قط، وقال أبو عبيدة والكسائي : القط الكتاب بالجوائز ويجمع على قطوط وقططة، كقرد وقرود وقردة، وفي القلة على أقطة وأقطاط، كقدح وأقدحة وأقداح، إلا أن أفعلة في فعل شاذ.
ولما أن القوم تعجبوا من أمور ثلاثة أولها : من أمر النبوات وإثباتها كما قال تعالى :﴿وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب﴾ (ص : ٤)
وثانيها : تعجبهم من الإلهيات فقالوا ﴿أجعل الآلهة إلهاً واحداً﴾ وثالثها : تعجبهم من المعاد والحشر والنشر فقالوا :﴿ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب﴾ قالوا ذلك استهزاء أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بالصبر فقال سبحانه :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٤
وأشار بحرف الاستعلاء إلى عظيم الصبر فقال ﴿على ما يقولون﴾ أي : على ما يقول الكافرون من ذلك، ثم إنه تعالى لما أمر نبيه بالصبر ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام تسلية له فكأنه تعالى قال : فاصبر على ما يقولون واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهم خاص، وحزن خاص، فيعلم حينئذ أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله تعالى لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.
وبدأ من ذلك بقصة داود عليه السلام فقال تعالى :﴿واذكر عبدنا﴾ أي : الذي أخلصناه لنا وأخلص
٤٨٩
نفسه للنظر إلى عظمتنا والقيام في خدمتنا وأبدل منه أو بينه بقوله تعالى :﴿داود ذا الأيد﴾ قال ابن عباس : أي : القوة في العبادة، روي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ﷺ "أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود وأحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" وقيل : ذا القوة في الملك ووصفه تعالى بكونه عبداً له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم وذلك يدل على غاية التشريف ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يشرف محمداً ﷺ ليلة المعراج قال تعالى :﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً﴾ (الإسراء : ١)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٩
وأيضاً وصف الأنبياء عليهم السلام بالعبودية مشعر بأنهم قد حصلوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة ﴿إنه أواب﴾ أي : رجاع إلى مرضاة الله تعالى، والأواب فعال من آب يؤب إذا رجع قال الله تعالى :﴿إن إلينا إيابهم﴾ (الغاشية : ٢٥)
وهذا بناء مغالبة كما يقال : قتال وضراب وهو أبلغ من قاتل وضراب وقال ابن عباس : مطيع، وقال سعيد بن جبير : مسبح بلغة الحبشة، ويؤيد هذا قوله تعالى :
﴿إنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء ﴿سخرنا الجبال﴾ أي : التي هي أقسى من قلوب قومك وأنها أعظم الأراضي صلابة وقوةً وعلواً ورفعةً بأن جعلناها منقادة ذلولاً كالجمل الأنف، ثم قيد ذلك بقوله تعالى :﴿معه﴾ أي : مصاحبة له ﴿يسبحن﴾ أي : بتسبيحه وفي كيفية تسبيحها وجوه أحدها : أن الله تعالى يخلق في جسم الجبل حياة وعقلاً وقدرة ونطقاً وحينئذ يصير الجبل مسبحاً لله تعالى، ثانيها : قال القفال : إن داود عليه السلام أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤها إليه تسبيحاً. روى محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحداً من خلقه مثل صوت داود عليه السلام حتى أنه كان إذا قرأ الزبور دنت منه الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، ثالثها : أن الله تعالى سخر الجبال حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود عليه السلام فجعل ذلك السير تسبيحاً لأنه يدل على كمال قدرته تعالى واتقان حكمته ﴿بالعشي والإشراق﴾ قال الكلبي : غدوةً وعشياً، والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها، قال الزجاج : يقال : شرقت الشمس، إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت، وقيل : هما بمعنى واحد والأول أكثر استعمالاً، تقول العرب : شرقت الشمس ولما تشرق، وفسره ابن عباس بصلاة الضحى قال ابن عباس : كنت أمر بهذه الآية ولم أدر ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب :"أن رسول الله ﷺ دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى وقال : يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق"، وروى طاوس عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن قالوا : لا فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. وقوله تعالى :