﴿كتاب﴾ خبر مبتدأ مضمر أي : هذا كتاب ثم وصفه بقوله تعالى :﴿أنزلناه﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿إليك﴾ يا أشرف الخلق ﴿مبارك﴾ أي : كثير خيره ونفعه، وقوله تعالى :﴿ليدبروا﴾ أصله ليتدبروا أدغمت التاء في الدال ﴿آياته﴾ أي : ليتفكروا في أسراره العجيبة ومعانيه اللطيفة فيأتمروا بأوامره ومناهيه فيؤمنوا ﴿وليتذكر﴾ أي : وليتعظ به ﴿أولو الألباب﴾ أي : أصحاب العقول.
القصة الثانية : قصة سليمان عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿ووهبنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿لداود سليمان﴾ ابنه فجاء عديم النظير في ذلك الزمان ديناً ودنيا وعلماً وحكمة وعظمة ورحمة، والمخصوص بالمدح في قوله تعالى :﴿نعم العبد﴾ محذوف أي : سليمان، وقيل : داود ﴿إنه أواب﴾ أي : رجاع إلى التسبيح والذكر في جميع الأوقات.
﴿إذ﴾ أي : اذكر إذ ﴿عرض عليه﴾ أي : سليمان، وقوله تعالى :﴿بالعشي﴾ وهو ما بعد الزوال إلى الغروب، وقوله تعالى :﴿الصافنات﴾ أي : الخيل العربية الخالصة جمع صافنة وفيه خلاف بين أهل اللغة فقال الزجاج : هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه قال وهي علامة الفراهة فيه وأنشد :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
ألف الصفون فلا يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا*
وقيل : هو الذي يجمع يديه ويسويهما، وقيل : هو القائم مطلقاً أي : سواء كان من الخيل أم من غيرها قاله القتيبي واستدل بقوله ﷺ "من سره أن تقوم الناس له صفوناً فليتبوأ مقعده من النار" أي : يديمون له القيام وجاء الحديث قمنا صفوناً أي : صافين أقدامنا، وقيل : هو قيام الخيل مطلقاً، أي : سواء وقف على طرف سنبكه أم لا، قال الفراء : على هذا رأيت أشعار العرب، واختلف أيضاً في قوله تعالى :﴿الجياد﴾ فهي إما من الجودة ويقال : جاد الفرس يجود جودة وجودة بالفتح والضم فهو جواد للذكر والأنثى، وهو الذي يجود في جريه بأعظم ما يقدر عليه، والجمع جياد وأجواد وأجاويد، وقيل : جمع لجود بالفتح كثياب وثوب، وإما من الجيد وهو العنق، والمعنى : طويلة الأجياد وهو دال على فراهتها.
٤٩٨
قال الكلبي : غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس، وقال مقاتل : ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، وقال عوف عن الحسن : بلغني أنها كانت خيلاً خرجت من البحر لها أجنحة، وعن عكرمة : أنها كانت عشرين ألف فرس لها أجنحة فصلى سليمان الصلاة الأولى التي هي الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت وفاتته الصلاة ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم لذلك.
﴿فقال إني أحببت﴾ أي : أردت ﴿حب الخير﴾ أي : الخيل ﴿عن ذكر ربي﴾ أي : صلاة العصر ﴿حتى توارت﴾ أي : الشمس ﴿بالحجاب﴾ أي : استترت بما يحجبها عن الأبصار.
﴿ردوها علي﴾ أي : الخيل المعروضة، وقيل : الضمير يرجع للشمس، قال الرازي : وهذا بعيد لوجوه.
الأول : أن الصافنات مذكورة بالصريح والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر.
وثانيها : أنه لو اشتغل بالخيل حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العصر كان ذلك ذنباً عظيماً ومن كان هذا حاله فطريقه التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة، فأما أن يقول على سبيل العظمة لرب العالمين مثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقب ذلك الجرم العظيم الذي لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير فكيف يجوز إسناده للرسول عليه السلام المطهر المكرم.
ثالثها : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لصار ذلك مشاهداً لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقل علمنا فساده، انتهى. قال أكثر المفسرين : فلما ردوا الخيل إليه أقبل يضرب سوقها وأعناقها بالسيف أخذاً من قوله تعالى ﴿فطفق مسحاً﴾ أي : فأخذ يمسح السيف مسحاً ﴿بالسوق والأعناق﴾ أي : سوقها وأعناقها يقطعها من قولهم : مسح علاوته إذا ضرب عنقه، قالوا : فعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى وطلباً لمرضاته حيث اشتغل عن طاعته وكان ذلك مباحاً له وإن كان حراماً علينا كما أبيح لنا ذبح بهيمة الأنعام وبقي منها مائة فرس فما بقي في أيدي الناس اليوم من الخيل من نسل تلك المائة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
قال الحسن : فلما عقر الخيل أبدله الله تعالى خيراً منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، قال الرازي : وهذا عندي بعيد لوجوه.
الأول : أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى فامسحوا برؤوسكم أي : اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل : مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح.