الثاني : أن القائلين بهذا القول أجمعوا على أن لسليمان عليه السلام أنواعاً من الأفعال المذمومة فأولها : ترك الصلاة وثانيها : أنه استولى عليه الإشتغال بحب الدنيا حتى نسي الصلاة وقال ﷺ "حب الدنيا رأس كل خطيئة" وثالثها : أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة
٤٩٩
والإنابة البتة. ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : ردوها علي وهذه كلمة لا يقولها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس. وخامسها : أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها، وقد نهى النبي ﷺ عن ذبح الحيوان إلا لأكله، وهذه أنواع من الكبائر ينسبونها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها، وخلاصتها : أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقب قوله :﴿وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب﴾ وأن الكفار لما بالغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد ﷺ اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ثم ذكر عقبه قصة سليمان عليه السلام فقال تعالى :﴿ووهبنا لداود سليمان﴾ الآية والتقدير : أنه تعالى قال لمحمد ﷺ يا محمد اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان، وهذا الكلام إنما يليق إذا قلنا : إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله تعالى وأعرض عن الشهوات واللذات، فلو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب لم يكن ذكر هذه القصة لائقاً.
قال : والصواب : أن تقول إن رباط الخيل كان مندوباً إليه في دينهم كما هو في دين محمد ﷺ ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أجريها لأمر الله تعالى وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله :﴿عن ذكر ربي﴾ ثم إنه عليه السلام أمر بإجرائها وسيرها حتى توارت بالحجاب أي : غابت عن بصره ثم إنه أمر الرابضين أن يردوها فردوا تلك الخيل إليه، فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك أمور :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
الأول : تشريفاً لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو.
الثاني : أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه.
الثالث : أنه كان أعلم بأحوال الخيل ومراميها وعيوبها فكان يمسها ويمسح لها سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير هو الذي ينطبق عليه لفظ القرآن ولا يلزم منه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام والعجب منهم كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلاً عن حجة.
قال : فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بتلك الوجوه فالجواب أن نقول : لفظ الآية لا تدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها لما ذكرنا وأيضاً فإن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يدل على صحة هذه الحكايات دليل قطعي ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات من أقوام لا يلتفت إلى أقوالهم والذي ذهبنا إليه قول الزهري وابن كيسان ا. ه، وقد يجاب من جهة الجمهور أن ما نسبه إليهم ممنوع.
وبيان ذلك أن قوله : إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه البتة من المسح العقر والذبح يقال : القرينة كافية في ذلك وقوله أنهم جمعوا أنواعاً مذمومة أولها : ترك الصلاة إنما يكون ذلك مذموماً إذا تركها متعمداً ولم يكن ذلك بل نسيها وقد نام ﷺ في الوادي حتى طلعت الشمس وقضى الصبح والنسيان والنوم لا مؤاخذة فيهما، وقوله : ثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إنما اشتغل بذلك لأمر الجهاد وهو مطلوب في حقه، وقوله : ثالثها : أنه لم يشتغل بالتوبة يقال : إنه لم يأت
٥٠٠
بذنب، وقوله : رابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : ردوها علي ممنوع والمخاطب إنما هو جماعته، وقوله : خامسها إلى أن قال : وقد نهى النبي ﷺ عن عقر الحيوان قد مر عنهم أن ذلك كان مباحاً له فليس فيما قالوه نسبة سليمان عليه الصلاة والسلام إلى معصية فلو قال : الأولى أن يقال : كذا كان أولى، وقرأ قنبل بهمزة ساكنة بعد السين وقيل عنه أيضاً بضم الهمزة وواو بعدها، واختلف في سبب الفتنة التي وقعت لسليمان عليه السلام في قوله تعالى :