لما ﴿قال رب اغفر لي﴾. أجيب : بأن الإنسان لا ينفك عن ترك الأفضل وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأنه أبدأ في مقام هضم النفس وإظهار الندم والخضوع كما قال ﷺ "إني لاستغفر الله تعالى في اليوم والليلة سبعين مرة" مع أنه ﷺ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى واختلف في قول سليمان عليه السلام ﴿وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي﴾ أي : سواي نحو فمن يهديه من بعد الله أي : سوى الله فقال عطاء بن أبي رباح : يريد هب لي ملكاً لا تسلبنيه في باقي عمري ﴿إنك أنت الوهاب﴾ وقال مقاتل : إن الشيطان لما استولى على ملكه طلب أن يعطيه الله ملكاً لا يقدر الشيطان على أن يقوم فيه مقامه البتة وقال : من أنكر أن الشيطان لم يستول على ذلك أن ذلك محتمل لوجوه ؛
٥٠٣
الأول : أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
فسخرنا﴾
أي : بما لنا من العظمة ﴿له الريح تجري بأمره رُخاءً﴾ أي : حالة كونها لينة غاية اللين منقادة يدرك بها ما لا تدرك الخيل غدوها شهر ورواحها شهر ﴿حيث أصاب﴾ أي : أراد فكون الريح جارية بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب دال على صحة نبوته لا يقدر أحد على معارضته، وقد جعل الله تعالى لنبينا محمد ﷺ أعظم من ذلك وهو أن العدو يرعب منه إلى مسيرة شهر من جوانبه الأربعة فهي أربعة أشهر.
الثاني : أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى التغيرات فسأل ربه ملكاً لا يمكن أن ينتقل مني إلى غيري.
الثالث : أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال عدم القدرة فكأنه قال : يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية حتى احترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل.
الرابع : سأل ذلك ليكون علامة على قبول توبته حيث أجاب الله تعالى دعاءه ورد عليه ملكه وزاده فيه، وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :"إن عفريتاً من الجن أتاني الليلة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه فذكرت دعوة أخي سليمان ﴿وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي﴾ فرددته خاسئاً" فعلم من هذه الأوجه أنه ليس في كلام سليمان عليه السلام ما يشبه الحسد وهو طلب ما لا ينبغي لأحد غيره، وأجاب الزمخشري بأجوبة غير ذلك منها : أن سليمان عليه السلام كان ناشئاً في بيت الملك والنبوة ووارثاً لهما فأراد أن يطلب من ربه معجزة فطلب على حسب ألفه ملكاً زائداً على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلاً على نبوته قاهراً للمبعوث إليهم ثم قال : وعن الحجاج أنه قيل له : إنك حسود، فقال : أحسد مني من قال :﴿وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي﴾ قال : وهذا من جراءته على الله تعالى وشيطنته ومن شيطنته ما حكي عنه طاعتنا أوجب من طاعة الله لأنه شرط في طاعته فقال :﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾ (التغابن : ٣٦)
وأطلق في طاعتنا فقال ﴿وأولي الأمر منكم﴾ (النساء : ٥٩)، فإن قيل : قوله تعالى :﴿رخاء﴾ ينافيه قوله تعالى في آية أخرى :﴿ولسليمان الريح عاصفة﴾ أجيب عن ذلك بوجهين : الأول : أن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصفة إلا أنها لما أمرت بأمره كانت لذيذة طيبة وكانت رخاء. الثاني : أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى فلا منافاة بين الآيتين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
تنبيه : قوله تعالى :﴿حيث﴾ ظرف لتجري أو لسخرنا.
فائدة : روي أن رجلين خرجا يقصدان رؤبة يسألانه عن معنى : أصاب فقال لهما : أين تصيبان ؟
فعرفا، وقالا : هذا بغيتنا. وقوله تعالى :
﴿والشياطين﴾ عطف على الريح، وقوله تعالى :﴿كل بناءٍ﴾ بدل من الشياطين
٥٠٤
كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية، روي أن سليمان عليه السلام أمر الجان فبنت له اصطخر وكان فيها قرار مملكة الترك قديماً وبنت له الجان أيضاً تدمر وبيت المقدس وباب جيرون وباب البريد اللذين بدمشق على أحد الأقوال، وبنوا له ثلاثة قصور باليمن غمدان وسلحين ويبنون ومدينة صنعاء، وقوله تعالى :﴿وغواصٍ﴾ عطف على بناء أي : يغوصون له في البحر يستخرجون اللؤلؤ وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر، وقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon