﴿وآخرين مقرنين﴾ أي : مشدودين ﴿في الأصفاد﴾ أي : القيود بجمع أيديهم إلى أعناقهم عطف على كل فهو داخل في حكم البدل، فكأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر، فإن قيل : أجسامهم إما أن تكون كثيفة أو لطيفة فإن كانت كثيفة وجب أن يراها صحيح الحاسة وإن كانت لطيفة فلا تقوى على العمل ولا يمكن تقرينها ؟
أجيب : بأن أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى وتقوى على العمل ويمكن تقرينها، أو أن المراد : تمثيل كفهم عن الشرور بالإقتران في الصفد وهو القيد ويسمى به العطاء لأنه يربط المنعم عليه وفرقوا بين فعل الصفد بمعنى القيد وفعله بمعنى العطاء فقالوا : صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد في الخير والشر في ذلك نكتة وهي : أن القيد ضيق فناسبه تقليل حروف فعله والعطاء واسع فناسبه تكثير حروف فعله، والوعد خير وهو خفيف فناسبه تقليل حروفه، والإيعاد شر وهو ثقيل فناسبه تكثير حروفه.
﴿هذا﴾ أي : وقلنا هذا الأمر الكبير ﴿عطاؤنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿فامنن أو أمسك﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أعط من شئت وامنع من شئت، قال المفسرون : أي : لا حرج عليك فيما أعطيت وفيما أمسكت، وقال الحسن : ما أنعم الله تعالى على أحد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان عليه السلام فإنه إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة، وقال مقاتل : هذا في أمر الشياطين يعني خل من شئت منهم وأمسك من شئت في وثاقك لا تبعة عليك فيما تتعاطاه وقوله تعالى ﴿بغير حساب﴾ فيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه متعلق بعطاؤنا أي : أعطيناك بغير حساب ولا تقدير وهو دال على كثرة الإعطاء، ثانيها : أنه حال من عطاؤنا أي : في حال كونه غير محاسب عليه لأنه جم كثير يعسر على الحاسب ضبطه، ثالثها : أنه متعلق بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون حالاً من فاعلهما أي : غير محاسب عليه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
ولما ذكر تعالى ما أنعم عليه به في الدنيا أتبعه بما أنعم عليه به في الآخرة بقوله سبحانه وتعالى :
﴿وإن له عندنا﴾ أي : في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا ﴿لزلفى﴾ أي : قربى عظيمة ﴿وحسن مآب﴾ وهو الجنة.
القصة الثالثة قصة أيوب عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿واذكر عبدنا﴾ أي : الذي هو أهل للإضافة إلى جنابنا ويبدل منه ﴿أيوب﴾ وهو ابن الروم بن عيص بن اسحق وامرأته ليا بنت يعقوب عليهما السلام وقوله تعالى :﴿إذ نادى ربه﴾ بدل من عبدنا بدل اشتمال وأيوب عطف بيان له وقوله :﴿إني﴾ أي : بأني ﴿مسني الشيطان﴾ أي : المحترق باللعنة البعيد من الرحمة ﴿بِنُصبٍ﴾ أي : بمشقة وضر ﴿وعذاب﴾ أي : ألم جيء به على حكاية كلامه الذي نادى بسببه ولو لم يحكه لقيل : إنه مسه لأنه غائب، وقال قتادة رضي الله عنه : النصب في الجسد والعذاب في المال، واختلف العلماء في هذه الآلام والأسقام الحاصلة في جسده على قولين ؛ أحدهما : أنها حصلت
٥٠٥
بفعل الشيطان، والثاني : أنها حصلت بفعل الله تعالى، والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان وهو عذاب الوسوسة وإلقاء الخواطر الفاسدة، أما تقرير القول الأول فهو ما روي أن إبليس لعنه الله سأل ربه فقال : هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني، فقال الله تعالى : نعم عبدي أيوب فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عياناً ولا يلتفت إليه، فقال : رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله فكان الشيطان يجيئه ويقول له : يا أيوب هلك من مالك كذا وكذا، فيقول أيوب له : الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله سبحانه وتعالى، فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على جسده فأذن فيه فنفخ في جلد أيوب فحدث أسقام عليه وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سنين حتى استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال : إن زوجك إن استغاث بي خلصته من هذا البلاء فذكرت المرأة ذلك لزوجها فحلف بالله لئن عافاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة وعند هذه الواقعة قال ﴿أني مسني الشيطان بنصب وعذاب﴾ فأجاب الله تعالى دعاءه وأوحى إليه أن ﴿اركض برجلك﴾ إلى آخر الآية.
وأما تقرير القول الثاني : فإن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والأسقام ويدل عليه وجوه.
الأول : أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان ولعل ما عندنا من الخيرات والسعادات قد حصل بفعله وحينئذ لا سبيل إلى معرفة من يعطي الحياة والموت والصحة والسقم أهو الله تعالى أم الشيطان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
ثانيها : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء ولم لا يخرب دورهم ولم لا يقتل أولادهم.
ثالثها : أن الله تعالى حكى عن الشيطان أنه قال :﴿وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي﴾ (إبراهيم : ٢٢)