فصرح بأنه لا قدرة له على البشر إلا بإلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، فدل ذلك على فساد القول بأن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان ؟
أجيب : بأنه إذا كان لابد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك بل الحق أن المراد بقوله :﴿أني مسني الشيطان بنصب وعذاب﴾ أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة كاد يلقيه في أنواع العذاب، والقائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا أوجهاً ؛ أولها : أن علته كانت شديدة الألم ثم طالت تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته ولم يبق له مال البتة وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن خدمتهم، والشيطان كان يذكره النعمة التي كانت عليه والآفات التي حصلت له وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله تعالى وقال : مسني الشيطان بنصب وعذاب لأنه كلما كثرت تلك الخواطر كان تألم قلبه منها أشد.
ثانيها : أنه لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان ليقنطه مرة ويزلزله ليجزع مرة فخاف من خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال :﴿إني مسني الشيطان﴾.
٥٠٦
ثالثها : قيل : إن امرأته كانت تخدم الناس وتأخذ منهم قدر القوت وتجيء به إلى أيوب عليه السلام فاتفق لها أنهم لما استخدموها طلبت بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني فعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر الرديئة في قلبه فعند ذلك قال :﴿مسني الشيطان بنصب وعذاب﴾.
رابعها : روي أنه عليه السلام قال في بعض الأيام : يا رب لقد علمت أني ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيماً ولابن السبيل معيناً ولليتامى أباً، فنودي يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق فأخذ أيوب عليه السلام التراب فوضعه على رأسه وقال : منك يا رب ثم خاف من الخواطر الأولى فقال :﴿مسني الشيطان بنصب وعذاب﴾ وذكروا أقوالاً أخر في سبب بلائه، منها : أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه، وقيل : كانت مواشيه ترعى في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يعظه، وقيل : أعجب بكثرة ماله وأعلم أن داود وسليمان عليهما السلام كانا ممن أفاض الله عليهما أصناف الآلاء والنعماء وأيوب عليه السلام كان ممن خصه الله بأنواع البلاء والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار كأن الله تعالى قال : يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر من الأنبياء نعمة ومالاً وجاهاً من داود وسليمان عليهما السلام، وما كان فيهم أكثر بلاء ومحنة من أيوب عليه السلام، فتأمل أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
ولما اشتكى أيوب عليه السلام الشيطان وسأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية أجاب الله تعالى له بأن قال له :
﴿اركض﴾ أي : اضرب ﴿برجلك﴾ أي : الأرض فضرب فنبعت عين ماء، فقيل له :﴿هذا مغتسل باردٌ﴾ أي : ماء تغتسل منه فيبرأ ظاهرك ﴿وشراب﴾ أي : وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء فاغتسل منه وشرب منه، وأكثر المفسرين قالوا : نبعت له عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله تعالى وقيل : ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها، وقيل : ضرب الأرض فنبعت له عين ماء فذهب كل داء كان بظاهره ثم مشى أربعين خطوة فركض برجله الأرض مرة أخرى فنبعت عين ماء عذب فشرب منه فذهب كل داء كان في باطنه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٩٧
٥٠٧
﴿ووهبنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿له أهله﴾ أي : بأن جعلناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، وقيل : وهبنا له مثل أهله والأول هو ظاهر الآية فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة ﴿ومثلهم معهم﴾ حتى كان له ضعف ما كان، وقوله تعالى :﴿رحمة﴾ أي : نعمة ﴿منا﴾ مفعول لأجله أي : وهبناهم له لأجل رحمتنا إياه ﴿وذكرى﴾ أي : وتذكيراً بحاله ﴿لأولي الألباب﴾ أي : أصحاب العقول ليعلموا أن من صبر ظفر وأن رحمة الله تعالى واسعة وهو عند القلوب المنكسرة فما بينه وبين الإجابة الأحسن الإنابة فمن دام إقباله عليه أغناه عن غيره كما قيل :
*لكل شيء إذا فارقته عوض ** وما عن الله إن فارقت من عوض*
وهذا تسلية لنبيه ﷺ كما مر وقوله تعالى :