﴿وخذ بيدك ضغثاً﴾ معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش والقضبان فيها مائة عود كشمراخ النخلة وقيل : الحزمة الكبيرة من القضبان، وقوله سبحانه وتعالى :﴿فاضرب به ولا تحنث﴾ يدل على تقدم يمين منه عليه الصلاة والسلام واختلفوا في سبب حلفه عليها ويبعد ما قيل أنها رغبته في طاعة الشيطان ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت ذؤابتيها لأن المضطر يباح له ذلك، بل الأقرب ما روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل : رحمة بنت افراثيم بن يوسف عليه السلام ذهبت لحاجة فأبطأت عليه فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برئ.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٧
ولما كانت حسنة الخدمة جعل الله تعالى يمينه بأهون شيء عليه وعليها وهذه الرخصة باقية في الحدود لما روي أنه ﷺ "أتي برجل ضعيف قد زنا بأمة فقال ﷺ خذوا مائة شمراخ واضربوه بها ضربة واحدة" ﴿إنا وجدناه صابراً﴾ أي : فيما أصابه في النفس والأهل والمال.
فإن قيل : كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ؟
أجيب بأوجه : أحدها : أن شكواه إلى الله تعالى كتمني العافية فلا يسمى جزعاً ولهذا قال يعقوب عليه السلام :﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾ (يوسف : ٨٦)
وكذلك شكوى العليل وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صح أن يسمى صابراً مع تمني العافية أفلا يعد صابراً مع اللجوء إلى الله تعالى والدعاء بكشف ما به مع التعالج ومشاورة الأطباء. ثانيها : أن الآلام حين كانت على الجسد لم يذكر شيئاً فلما تعاظمت الوساوس على القلب تضرع إلى الله تعالى. ثالثها : أن الشيطان عدو والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر، ويروى أنه قال في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعاناً ولا كاسياً ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه ثم استأنف قوله تعالى :﴿نعم العبد﴾ أي : أيوب عليه السلام ثم علل بقوله تعالى : مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك ﴿إنه أواب﴾ أي : رجاع إلى الله تعالى روي : أنه لما نزل قوله تعالى :﴿نعم العبد﴾ في حق سليمان عليه السلام تارة وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم في قلوب أمة محمد ﷺ وقالوا : إن قوله تعالى :﴿نعم العبد﴾ تشريف عظيم فإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل
٥٠٨
أيوب عليه السلام لم نقدر عليه فكيف السبيل إلى تحصيله فأنزل الله تعالى قوله سبحانه وتعالى :﴿نعم المولى ونعم النصير﴾ (الأنفال : ٤٠)
والمراد : أنك أيها الإنسان إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى وإن كان منك غير الفضل فأنا مني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني الرحمة والتيسير.
القصة الرابعة : قصة إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق﴾ بن إبراهيم ﴿ويعقوب﴾ بن إسحاق ﴿أولي الأيدي﴾ أي : أصحاب القوى في العبادة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : أولي القوة في طاعة الله تعالى ﴿والأبصار﴾ أي : المعرفة بالله أي : البصائر في الدين وأولي الأعمال الجليلة والعقائد الشرعية، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالإبصار عن المعارف لأنها أقوى عبادتها، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله تعالى ولا من المستبصرين في دين الله، وفيه توبيخ أيضاً على تركهم المجاهدة والتأمل مع كونهم متمكنين منهما فهم في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم والناقصي العقول الذين لا استبصار لهم، وقال قتادة ومجاهد : أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين، وقرأ ابن كثير بفتح العين وسكون الباء الموحدة ولا ألف بعدها على التوحيد على أنه إبراهيم وحده لمزيد شرفه وإبراهيم عطف بيان وإسحاق ويعقوب عطف على عبدنا والباقون بكسر العين وفتح الموحدة وألف بعدها على الجمع.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٧


الصفحة التالية
Icon