إنا أخلصناهم بخالصةٍ} أي : اصطفيناهم وجعلناهم لنا خالصين بخصلة خالصة لا شوب فيها وهي ﴿ذكرى الدار﴾ الآخرة أي : ذكرها والعمل لها لأن مطمح نظرهم الفوز بلقائه وذلك في الآخرة وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار الحقيقة والدنيا معبر، وقرأ نافع وهشام خالصة بغير تنوين بالإضافة للبيان أو أن خالصة مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله والباقون بالتنوين، فمن أضاف فمعناه أخلصناهم بذكرى الدار الآخرة وأن يعملوا لها، والذكرى بمعنى : الذكر، قال مالك بن دينار : نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصناهم بحب الآخرة وذكرها، وقال قتادة : كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله عز وجل، وقال السدي : أخلصوا الخوف للآخرة وقال ابن زيد : أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، ومن قرأ بالتنوين فمعناه : بخلة خالصة هي ذكرى الدار فيكون ذكرى الدار بدلاً من الخالصة أو جعلناهم مخلصين بما أخبرنا من ذكر الآخرة، والمراد بذكرى الدار : الذكر الجميل الرفيع لهم في الآخرة، وقيل : إنه أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقيل : هو دعاؤه ﴿واجعل لي لسان صدق في الآخرين﴾ (الشعراء : ٨٤)
﴿وإنهم عندنا لمن المصطفين﴾ أي : اصطفاء لا يقدح فيه قادح فصاروا في غاية الرسوخ في هذا الوصف ﴿الأخيار﴾ أي : المختارين من أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت، واحتج العلماء بهذه الآية على إثبات عصمة الأنبياء عليهم السلام لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخياراً على الإطلاق وهذا يفهم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء منه.
القصة الخامسة : قصة إسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿واذكر﴾ يا أشرف الخلق ﴿إسماعيل﴾ أي : أباك وما صبر عليه من البلاء بالغربة والإنفراد والوحدة والإشراف على الموت في الله غير مرة وما صار إليه بعد ذلك البلاء من الفرج والرياسة والذكر في هذه البلدة ﴿واليسع﴾ وهو ابن إخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ
٥٠٩
واللام كما في قوله :
* ** رأيت الوليد بن اليزيد مباركاً
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد اللام وسكون الياء بعدها والباقون بسكون اللام وفتح الياء بعدها ﴿وذا الكفل﴾ وهو ابن عم اليسع أو بشر بن أيوب واختلف في نبوته وكفلته فقيل : فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم وقيل : كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة ﴿وكل﴾ أي : وكلهم ﴿من الأخيار﴾ فهم قوم خيرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله تعالى وصبروا فاذكرهم يا أفضل الخلق بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٠٧
ولما أجرى تعالى ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتمه قال مؤكداً لشأنهم وشرف ما ذكر من أعمالهم :
﴿هذا﴾ أي : ما تلوناه عليك من ذكرهم وذكر غيرهم ﴿ذكر﴾ أي : شرف في الدنيا وموعظة من ذكر القرآن ذي الذكر ثم عطف على قوله تعالى :﴿إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد﴾ (ص : ٢٦)
ما لأضدادهم فقال تعالى رداً على من ينكر ذلك من كفار العرب وغيرهم ﴿وإن للمتقين لحسن مآب﴾ أي : مرجع.
ولما شوق سبحانه إلى هذا الجزاء أبدل منه أو بينه بقوله تعالى :
﴿جنات عدنٍ﴾ أي : إقامة في سرور وطيب عيش، ثم إنه تعالى وصف أهل الجنة بأشياء أولها قوله تعالى :﴿مفتحة لهم الأبواب﴾ أي : أن الملائكة يفتحون لهم أبواب الجنة ويحيونهم بالسلام كما قال تعالى :﴿حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها﴾ (الزمر : ٧٣)
الآية وقيل : المعنى أنهم كلما أرادوا انفتاح الأبواب انفتحت لهم وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم، وقيل : المراد من هذا الفتح وصف تلك المساكن بالسعة وقرة العيون فيها، ثانيها : قوله تعالى :
﴿متكئين فيها﴾ وقد ذكر في آيات أخر كيفية ذلك الاتكاء فقال تعالى في آية :﴿على الأرائك متكئون﴾ (يس : ٥٦)
وقال في آية أخرى :﴿متكئين على رفرف خضر﴾ (الرحمن : ٧٦)
ثالثها : قوله تعالى ﴿يدعون فيها﴾ أي : الجنات ﴿بفاكهة كثيرة وشراب﴾ أي : كثير فيدعون فيها بألوان الفاكهة وألوان الشراب.
ولما بين المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح تتميماً للنعمة بقوله سبحانه تعالى :
﴿وعندهم قاصرات الطرف﴾ أي : حابسات الطرف أي : العين على أزواجهن ﴿أتراب﴾ أي : أسنانهن واحدة وهي بنات ثلاث وثلاثين سنة واحدها ترب، وعن مجاهد : متواخيات لا يتباغضن
٥١٠
ولا يتغايرن وقيل : أتراب للأزواج، قال القفال : والسبب في اعتبار هذه الصفة لما تشابهن في الصفة والسن والجبلة كان الميل إليهن على السوية وذلك يقتضي عدم الغيرة وقرأ قوله تعالى :
﴿هذا ما يوعدون﴾ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية على الغيبة والباقون بالفوقية على الخطاب، وجه الغيبة تقدم ذكر المتقين، ووجه الخطاب الالتفات إليهم والإقبال عليهم أي : قل للمتقين هذا ما توعدون ﴿ليوم الحساب﴾ أي : في يوم الحساب أو لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء.


الصفحة التالية
Icon