﴿أتخذناهم سخرياً﴾ صفة أخرى ل ﴿رجالاً﴾ أي : كنا نسخر بهم في الدنيا، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها ﴿أم زاغت﴾ أي : مالت ﴿عنهم الأبصار﴾
٥١٢
أي : فلم نرهم حين دخلوها وقال ابن كيسان : أي : أم كانوا خيراً منا ونحن لا نعلم فكانت أبصارنا تزيغ عنهم في الدنيا فلا نعدهم شيئاً.
﴿إن ذلك﴾ أي : الذي حكيناه عنهم ﴿لحق﴾ أي : واجب وقوعه فلا بد أن يتكلموا به ثم بين ذلك الذي حكاه عنهم بقوله تعالى :﴿تخاصم أهل النار﴾ أي : في النار وإنما سماه تخاصماً لأن قول القادة للأتباع : لا مرحباً بهم، وقول الأتباع للقادة : بل أنتم لا مرحباً بكم من باب الخصومة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥١٢
تنبيه : يصح في تخاصم أوجه من الإعراب أحدها : أنه بدل من لحق، الثاني : أنه عطف بيان، الثالث : أنه خبر ثان لأن، الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هو تخاصم.
ولما شرح سبحانه نعيم أهل الثواب وعقاب أهل العذاب عاد إلى تقرير التوحيد والنبوة والبعث المذكورات أول السورة بقوله تعالى :
﴿قل﴾ يا أفضل الخلق للمشركين ﴿إنما أنا منذرٌ﴾ أي : مخوف بالنار لمن عصى ﴿و﴾ لا بد من الإقرار بأنه ﴿ما من إله إلا الله﴾ أي : الجامع لجميع الأسماء الحسنى ﴿الواحد القهار﴾ فكونه واحداً يدل على عدم الشريك وكونه قهاراً مشعر بالتخويف والترهيب.
ولما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب بقوله تعالى : شأنه :
﴿رب السموات﴾ أي : مبدعها وحافظها على علوها وسعتها وإحكامها بما لها من الزينة والمنافع ﴿والأرض﴾ أي : على سعتها وضخامتها وكثافتها وما فيها من العجائب ﴿وما بينهما﴾ أي : الخافقين من الفضاء والهواء وغيرهما من العناصر والنبات والحيوانات العقلاء وغيرها ربي كل شيء من ذلك إيجاداً وإبقاء على ما يريد وإن كره ذلك المربوب فدل ذلك على قهره وتفرده ﴿العزيز﴾ أي : الغالب على أمره ﴿الغفار﴾ فكونه رباً يشعر بالتربية والكرم والإحسان والجود وكونه غفاراً يشعر بأن العبد لو أقدم على المعاصي والذنوب ثم تاب إليه فإنه يغفرها برحمته، وهذا الموصوف بهذه الصفات هو الذي تجب عبادته لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى ثوابه وقوله تعالى :
﴿قل﴾ أي : لهم ﴿هو نبأ عظيم﴾ يعود على القرآن وما فيه من القصص والأخبار، وقيل : تخاصم أهل النار، وقيل : على ما تقدم من إخباره ﷺ بأنه نذير مبين وبأن الله تعالى إله واحد متصف بتلك الصفات الحسنى وقوله تعالى :
﴿أنتم عنه معرضون﴾ صفة لنبأ أي : لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة إما على التوحيد فما مر وإما على النبوة، فقوله تعالى :
﴿ما كان لي من علم بالملأ الأعلى﴾ أي : الملائكة فقوله :﴿بالملأ﴾ متعلق بقوله ﴿من علم﴾ وضمن معنى الإحاطة فلذلك تعدى بالباء ﴿إذ يختصمون﴾ أي : في شأن آدم عليه السلام حين قال الله عز وجل :﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ (البقرة : ٣٠)
الآية، فإن قيل : الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم :﴿أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء﴾ (البقرة : ٣٠)
فالمخاصمة مع الله تعالى كفر ؟
أجيب : بأنه لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة المجاز فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة، ولما أمر الله تعالى محمداً ﷺ أن يذكر هذا الكلام على سبيل الزجر أمره أن يقول :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥١٢
إن﴾
أي : ما ﴿يوحي إلي إلا أنما﴾ أي : أني ﴿أنا نذير مبين﴾ أي : بين الإنذار فأبين لكم ما تأتونه وما تجتنبونه، وروي أنه ﷺ قال :"رأيت ربي في أحسن صورة، قال ابن عباس رضي الله
٥١٣
عنه : أحسبه قال في المنام فقال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى، قلت : أنت أعلم أي رب مرتين، قال : فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو قال : في نحري فعلمت ما في السموات وما في الأرض، وفي رواية ثم تلا هذه الآية ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين﴾ (الأنعام : ٧٥)
ثم قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى قلت : نعم في الدرجات والكفارات، قال : وما هن قلت : المشي على الأقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء في المكاره، قال : من يفعل ذلك يعيش بخير ويموت بخير وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال : يا محمد إذا صليت فقل : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" قال : ومن الدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام، وفي رواية :"فقلت : لبيك وسعديك في المرتين وفيهما فعلمت ما بين المشرق والمغرب" أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب، وللعلماء في هذا الحديث وأمثاله من أحاديث الصفات مذهبان.


الصفحة التالية
Icon