أحدهما : مذهب السلف وهو إقراره كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه مع الاعتقاد بأن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والمذهب الثاني : مذهب الخلف : وهو تأويل الحديث فقوله ﷺ رأيت ربي في أحسن صورة يحتمل وجهين :
أحدهما : وأنا في أحسن صورة كأنه زاده جمالاً وكمالاً وحسناً عند رؤيته لربه وإنما التغيير وقع بعده لشدة الوحي وثقله.
الثاني : أن الصورة بمعنى الصفة ويرجع ذلك إلى الله تعالى والمعنى : أنه رآه في أحسن صفاته من الإنعام عليه والإقبال إليه والله تعالى تلقاه بالإكرام والإعظام فأخبر ﷺ عن عظمته وكبريائه وبهائه وبعده عن شبهه بالخلق وتنزيهه عن صفات النقص وأنه ليس كمثله وهو السميع البصير وقوله ﷺ فوضع يده بين كتفي إلخ فالمراد باليد : النعمة والمنة والرحمة وذلك شائع في لغة العرب فيكون معناه على هذا الإخبار بإكرام الله تعالى إياه وإنعامه عليه بأن شرح صدره ونور قلبه وعرفه ما لم يعرفه حتى وجد برد النعمة والرحمة والمعرفة في قلبه، وذلك لما نور قلبه وشرح صدره فعلم ما في السموات وما في الأرض بإعلام الله تعالى إياه فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون إذ لا يجوز على الله تبارك وتعالى ولا على صفات ذاته سبحانه مماسة أو مباشرة أو نقص وهذا أليق بتنزيهه وحمل الحديث عليه، وإذا حملنا الحديث على المنام وإن ذلك كان في المنام فقد زال الإشكال لأن رؤية الباري سبحانه في المنام على الصفات الحسنة دليل على البشارة والخير والرحمة للرائي، وسبب اختصام الملأ الأعلى وهم الملائكة في الكفارات وهي الخصال المذكورة في الحديث في أيها أفضل، وسميت هذه الخصال كفارات ؛ لأنها تكفر الذنوب عن فاعلها فهي من باب تسمية الشيء باسم لازمه وسمي ذلك مخاصمة لما مر في السؤال والجواب المتقدمين.
٥١٤
وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥١٢
إذ﴾
يجوز أن يكون بدلاً من إذا الأولى كما قاله الزمخشري، وأن يكون منصوباً باذكر كما قاله أبو البقاء أي : واذكر إذ ﴿قال ربك للملائكة إني خالق﴾ أي : جاعل ﴿بشراً من طين﴾ هو آدم عليه السلام، فإن قيل : كيف صح أن يقول لهم إني خالق بشراً وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قبل ؟
أجيب : بأنه قد يكون قال لهم : إني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم.
﴿فإذا سويته﴾ أي : أتممت خلقه ﴿ونفخت﴾ أي : أجريت ﴿فيه من روحي﴾ فصار حياً حساساً متنفساً وإضافة الروح إليه تعالى إضافة تشريف لآدم عليه السلام والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه يسري في بدن الإنسان سريان الضوء في الفضاء وكسريان النار في الفحم والماء في العود الأخضر ﴿فقعوا﴾ أي : خروا ﴿له ساجدين﴾.
﴿فسجد الملائكة﴾ وقوله تعالى :﴿كلهم أجمعون﴾ فيه تأكيدان، وقال الزمخشري : كل للإحاطة وأجمعون للاجتماع فأفادا معاً أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا أنهم سجدوا جميعاً في وقت واحد غير متفرقين في أوقات، انتهى. فإن قيل : كيف ساغ السجود لغير الله ؟
أجيب : بأن الممنوع هو السجود لغير الله تعالى على وجه العبادة فأما على وجه التكرمة والتبجيل فلا يأباه العقل إلا أن يكون فيه مفسدة فينهى الله تعالى عنه والأولى في الجواب أنه سجود تحية بالانحناء كما قاله الجلال المحلي.
﴿إلا إبليس استكبر﴾ أي : تكبر وتعظم عن السجود، فإن قيل : كيف استثنى من الملائكة عليهم السلام إبليس وهو من الجن ؟
أجيب : بأنه قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله تعالى ﴿فسجد الملائكة﴾ ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً وقال الجلال المحلي : هو أبو الجن وكان من الملائكة وعلى هذا فلا سؤال ﴿وكان﴾ أي : وصار ﴿من الكافرين﴾ باستكباره عن أمر الله تعالى أو كان من الكافرين في الأزمنة الماضية في علم الله تعالى.
تنبيه : المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمداً ﷺ بسبب الحسد والكبر فذكر الله تعالى هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجراً عن هاتين الخصلتين المذمومتين.
﴿قال﴾ الله تعالى ﴿يا إبليس﴾ سماه بهذا الاسم لكونه من الإبلاس وهو انقطاع الرجاء إشارة إلى تحتم العقوبة له ﴿ما منعك أن تسجد﴾ وبين ما يوجب طاعته ولو أمر بتعظيم ما لا يعقل بقوله تعالى معبراً بأداة ما لا يعقل عمن كان عند السجود له عاقلاً كامل العقل :﴿لما خلقت بيدي﴾ أي : توليت خلقه من غير توسط سبب كأب وأم والتثنية في اليد لما في خلقه من مزيد القدرة، وقوله تعالى :﴿أستكبرت﴾ استفهام توبيخ أي : تعظمت بنفسك الآن عن السجود له ﴿أم كنت من العالين﴾ أي : من القوم الذين يتكبرون فتكبرت عن السجود له لكونك منهم فأجاب إبليس بقوله :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥١٢


الصفحة التالية
Icon