قال أنا خيرٌ منه} أي : لو كنت مساوياً له في الشرف لكان يقبح أن أسجد له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيراً منه بقوله :﴿خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ والنار أشرف من الطين بدليل أن الأجرام الفلكية أفضل من الأجرام العنصرية، والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعد عنه، فوجب كون النار أفضل من الأرض، وأيضاً فالنار خليفة الشمس والقمر في إضاءة العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض فخليفتهما في الإضاءة أفضل من
٥١٥
الأرض، وأيضاً فالكيفية الفاعلة الأصلية إما الحرارة وإما البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت، وأيضاً فالنار لطيفة والأرض كثيفة واللطافة أفضل من الكثافة، وأيضاً فالنار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة، وأيضاً فالنار خفيفة تشبه الروح والأرض كثيفة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض.
والدليل على أن الأرض أفضل من النار إنها أمينة مصلحة فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة، والنار خائنة مفسدة لكل ما سلمته إليها، وأيضاً فالنار بمنزلة الخادم لما في الأرض إن احتيج إليها استدعيت استدعاء الخادم وإن استغني عنها طردت، وأيضاً فالأرض مستولية على النار لأنها تطفئ النار، وأيضاً فإن استدلال إبليس يكون أصله خيراً من أصله استدلال فاسد لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين المزهرة والأشجار المثمرة هو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد، وأيضاً هب أن اعتبار هذه الجهة توجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يعارض بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه إلا أن الذي لا يكون نسيباً قد يكون كثير العلم والزهد فيكون أفضل من النسيب بدرجات لا حد لها فكذبت مقدمة إبليس، فإن قيل : هب أن إبليس أخطأ في القياس لكن كيف لزمه الكفر في تلك المخالفة وتقرير السؤال من وجوه ؛ الأول : أن قوله تعالى :﴿اسجدوا﴾ أمر وهو يحتمل الوجوب والندب فكيف يلزم العصيان فضلاً عن الكفر، الثاني : هب أنه للوجوب وقلتم إن إبليس ليس من الملائكة فأمر الملائكة بالسجود لآدم لا يدخل فيه إبليس، الثالث : هب أنه تناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فجاز أن يخصص نفسه من عموم ذلك الأمر بالقياس. الرابع : هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأموراً به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر ؟
أجيب : بأن صيغة الأمر وإن لم يدل على الوجوب يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل عليه وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى :﴿أستكبرت أم كنت من العالين﴾ (ص : ٧٥)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥١٢
فعلم بذلك أن الأمر للوجوب وأنه مخاطب بالسجود فلما أتى بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر القياس ليتوصل به إلى القدح في أمر الله تعالى وتكليفه وذلك يوجب الكفر.
ولما ذكر إبليس لعنه الله تعالى هذا القياس الفاسد.
﴿قال﴾ الله تعالى له :﴿فاخرج﴾ أي : بسبب تكبرك ونسبتك الحكيم الذي لا اعتراض عليه إلى الجور ﴿منها﴾ أي : من الجنة، وقيل : من الخلقة التي أنت فيها لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعدما كان أبيض وقبح بعدما كان حسناً وأظلم بعدما كان نورانياً، وقيل : من السموات ﴿فإنك رجيم﴾ أي : مطرود لأن من طرد رمي بالحجارة فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد، فإن قيل : الطرد هو : اللعن فيكون قوله تعالى :
﴿وإن عليك لعنتي﴾ مكرراً أجيب : بحمل الطرد على ما تقدم وتحمل اللعنة على الطرد من رحمة الله تعالى وأيضاً قوله تعالى :﴿وإن عليك لعنتي﴾ ﴿إلى يوم الدين﴾ أي : الجزاء أفاد أمراً وهو طرده إلى يوم القيامة فلا يكون تكراراً وقيل : المراد بالرجم كون الشياطين مرجومين بالشهب، فإن قيل : كلمة إلى لانتهاء الغاية فكأن لعنة الله إبليس غايتها يوم الدين ثم تنقطع، أجيب : بأنها كيف تنقطع وقد قال تعالى :﴿فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين﴾ (الأعراف : ٤٤)
فأفاد أن عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة اقترن عليه مع اللعنة من العذاب ما تنسى عنده اللعنة فكأنها انقطعت.
٥١٦
تنبيه : قال تعالى هنا ﴿لعنتي﴾ وفي آية أخرى ﴿اللعنة﴾ وهما وإن كانا في اللفظ عاماً وخاصاً إلا أنهما من حيث المعنى عامان بطريق اللازم لأن من كانت عليه لعنة الله تعالى كانت عليه لعنة كل أحد لا محالة، وقال تعالى :﴿أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين﴾ (البقرة : ١٦١)
ولما صار إبليس ملعوناً مطروداً :
﴿قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون﴾ أي : الناس طلب الإنظار إلى يوم البعث لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا أنظر ليوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء البعث لا يموت فحينئذ يتخلص من الموت فلذلك :
﴿قال﴾ تعالى :﴿فإنك من المنظرين﴾.