﴿قل الله أعبد مخلصاً له ديني﴾ قلنا : ليس هذا بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله تعالى بالإيمان بالعبادة، والثاني : إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله تعالى، وذلك أن قوله ﴿أمرت أن أعبد الله﴾ لا يفيد الحصر وقوله تعالى :﴿قل الله أعبد﴾ يفيد الحصر أي : الله أعبد ولا أعبد أحداً سواه.
ويدل عليه أنه لما قال ﴿قل الله أعبد﴾ قال بعده :
﴿فاعبدوا﴾ أي : أنتم أيها الداعون في وقت الضراء المعرضون في وقت الرخاء ﴿ما شئتم من دونه﴾ أي : غيره في هذا تهديد وزجر لهم وإيذان بأنهم لا يعبدون الله تعالى، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله سبحانه ﴿قل إن الخاسرين﴾ أي : الكاملين في الخسران ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ أي : أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه ﴿و﴾ خسروا ﴿أهليهم يوم القيامة﴾ أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا ذهاباً لا رجوع بعده البتة. وقوله تعالى ﴿ألا ذلك﴾ أي : الأمر العظيم البعيد الرتبة في الخسارة ﴿هو الخسران المبين﴾ أي : البين يدل على غاية المبالغة من وجوه ؛ أحدها : أنه وصفهم بالخسران ثم أعاد ذلك بقوله تعالى :﴿ألا ذلك هو الخسران المبين﴾ وهذا التكرير لأجل التأكيد، وثانيها : ذكر حرف ألا وهو للتنبيه، وذكر التنبيه يدل على التعظيم، كأنه قال : بلغ في العظم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا له، وثالثها : قوله تعالى ﴿هو الخسران﴾ ولفظة هو تفيد الحصر كأنه قيل : كل خسران يصير في مقابلته كل خسران، ورابعها : وصفه تعالى بكونه خسراناً مبيناً يدل على التهويل.
ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخسران بقوله تعالى :
﴿لهم من فوقهم ظلل﴾ أي : طباق ﴿من النار ومن تحتهم ظلل﴾ أي : فرش ومهاد نظيره قوله تعالى :﴿لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش﴾ (الأعراف : ٤١)، فإن قيل : الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته ظلة ؟
أجيب بأوجه : أحدها : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله تعالى :﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى : ٤٠)، ثانيها : أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار دركات كما أن الجنة درجات، ثالثها : أن الظلة التحتانية لما كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم إحداهما على الأخرى لأجل المماثلة والمشابهة وقيل المراد : إحاطة النار بهم من جميع الجهات.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢٧
ذلك﴾
أي : العذاب المعد للكفار ﴿يخوف الله به عباده﴾ أي : المؤمنين ليتجنبوا ما يوقعهم فيه، وقيل : يخوف به الكفار والضلال ويدل للأول قوله تعالى :﴿يا عباد فاتقون﴾ أي : ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة، ووجه الدلالة أن إضافة
٥٢٨
العبيد إلى الله تعالى في القرآن مختص بأهل الإيمان.
﴿والذين اجتنبوا الطاغوت﴾ أي : البالغ غاية الطغيان والطاغوت فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيه قلباً بتقديم اللام على العين إذ أصله طغيوت قدمت الياء على الغين ثم قلبت الفاء لتحركها وانفتاح ما قبلها، أطلقت على الشيطان أو الشياطين لكونها مصدراً وفيها مبالغات وهي التسمية بالمصدر كأنّ عين الشيطان طغيان وإن البناء بناء مبالغة، فإن الرحموت الرحمة الواسعة، والملكوت الملك المبسوط، والقلب وهو للاختصاص قال في الكشاف : إذ لا تطلق على غير الشيطان والمراد بها هنا : الجمع انتهى.
لكن ابن الخازن فسر الطاغوت بالأوثان وتبعه الجلال المحلي.
فإن قيل : يتعين هذا التفسير لأنهم إنما عبدوا الصنم لا الشيطان. أجيب : بأن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان هو الداعي كانت عبادة الصنم عبادة له.
فإن قيل : ما وجه تسمية الصنم بالطاغوت على التفسير الثاني مع أنه لا يطلق إلا على الشيطان كما مر ؟
أجيب : بأنه أطلق عليه على سبيل المجاز لأن الطغيان لما حصل بسبب عبادته والتقرب إليه وصفه بذلك إطلاقاً لاسم السبب على المسبب بحسب الظاهر. وقوله تعالى :﴿أن يعبدوها﴾ بدل اشتمال من الطاغوت لأن الطاغوت مؤنث كأنه قيل : اجتنبوا عبادة الطاغوت. فإن قيل : على التفسير الأول إنما عبدوا الصنم لا الشيطان ؟
أجيب : بأنه الداعي إلى عبادة الصنم.
فائدة : نقل في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نور عظيم وأن الملائكة أنوار مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صور على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة.


الصفحة التالية
Icon