فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا تشاكس ؟
أجيب : بأن عبدة الأصنام يختلفون، منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة وهم يثبتون بينها منازعة ومشاكسة ألا ترى أنهم يقولون : زحل هو النحس الأعظم والمشتري هو : السعد الأعظم، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية، وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة فيكون المثال مطابقاً، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل لأشخاص من العلماء والزهاد مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله تعالى، والقائلون بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هم على دينه وأن من سواه مبطل، وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٣٢
ولما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق قال الله تعالى :﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي : كل الحمد لله الذي لا مكافئ له فلا يشاركه فيه على الحقيقة سواه لأنه المنعم بالذات والمالك على الإطلاق ﴿بل أكثرهم﴾ أي : أهل مكة ﴿لا يعلمون﴾ أي : ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به غيره من فرط جهلهم وقول البغوي والمراد بالأكثر الكل ليس بظاهر.
ولما كان كفار مكة يتربصون موت رسول الله ﷺ أخبره الله تعالى بأن الموت يجمعهم
٥٣٦
جميعاً بقوله تعالى :
﴿إنك ميت﴾ أي : ستموت وخصه الله تعالى بالخطاب لأن الخطاب إذا كان للرأس كان أصدع لأتباعه فكل موضع كان للأتباع، وخص فيه ﷺ بالخطاب دونهم فهم المخاطبون في الحقيقة على وجه أبلغ ﴿وإنهم ميتون﴾ أي : سيموتون فلا معنى للتربص وشماتة الفاني بالفاني.
فائدة : قال الفراء : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت : بالتخفيف من فارقته الروح ولذلك لم يخفف هنا. وقوله تعالى :
﴿ثم إنكم﴾ فيه تغليب المخاطب على الغائب ﴿يوم القيامة عند ربكم﴾ أي : المربي لكم بالخلق والرزق ﴿تختصمون﴾ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت وكذبوا واجتهدت في الإرشاد والتبليغ فلجوا في التكذيب والعناد ويعتذرون بالأباطيل يقول الأتباع أطعنا سادتنا وكبراءنا وتقول السادات أغوتنا آباؤنا الأقدمون والشياطين، ويجوز أن يكون المراد به الاختصام العام وجرى عليه الجلال المحلي وهو أولى وإن رجح الأولَ الكشافُ، لما روي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال :"لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله أتكون علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال : نعم فقال : إن الأمر إذاً لشديد" وقال ابن عمر : عشنا برهة من الدهر وكنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين، قلنا : كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأينا بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفنا أنها فينا نزلت. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذه الآية قال : كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة ؟
فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا : هو هذا. وعن إبراهيم النخعي قال : لما نزلت قالت الصحابة كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا : هذه خصومتنا. وعن أبي العالية : نزلت في أهل القبلة.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ "من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه". وعن أبي هريرة أيضاً قال : قال رسول الله ﷺ "أتدرون من المفلس ؟
قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد كان شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قبائح أفعالهم بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٣٢
٥٣٧