ولما بين تعالى في هذه الآيات فساد مذاهبهم أي : المشركين تارة بالدلائل وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد، وكان ﷺ يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم﴾ (الكهف : ٤١ ـ ٤٧)
وقال تعالى :﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ (فاطر : ٨)
أردفه بكلام يزيل ذلك الحزن العظيم عن قلب رسول الله ﷺ فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٣٧
﴿إنا أنزلنا﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة التامة ﴿عليك﴾ يا أشرف الخلق ﴿الكتاب﴾ أي : الكامل الشرف ﴿للناس﴾ أي : لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم فهو للناس عامة لأن رسالتك عامة وجعلنا إنزاله مقروناً ﴿بالحق﴾ أي : بالصدق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله ﴿فمن اهتدى﴾ أي : طاوع الهادي ﴿فلنفسه﴾ أي : فنفعه يعود إلى نفسه ﴿ومن ضل﴾ أي : وقع في الضلال بمخالفته ﴿فإنما يضل عليها﴾ أي : فضرر ضلاله يعود إليه.
ولما دل السياق على أن التقدير فما أنت عليهم بجبار لتقهرهم على الهدى عطف عليه قوله تعالى :﴿وما أنت عليهم بوكيل﴾ أي : لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك تسلية لرسول الله ﷺ ولأن الهداية والضلال من العبد لا يحصلان إلا من الله تعالى لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، فكما أن الحياة واليقظة لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى كذلك الضلال لا يحصل إلا من الله تعالى ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر ومن عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب.
ولما بين سبحانه أن الهداية والضلال بتقديره قال تعالى :
﴿الله﴾ أي : الذي له مجامع الكمال وليس لشائبة النقص إليه سبيل ﴿يتوفى الأنفس﴾ أي : الأرواح ﴿حين موتها﴾ أي : موت أجسادها وتوفيها إماتتها وهي أن تسلب ما هي به حية حساسة دراكة من صحة أجزائها وسلامتها لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وقوله تعالى :﴿والتي لم تمت في منامها﴾ عطف على الأنفس أي : يتوفى الأنفس حين موتها ويتوفى أيضاً الأنفس التي لم تمت في منامها ففي منامها ظرف ليتوفى أي : يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى ومنه قوله تعالى :﴿وهو الذي يتوفاكم
٥٤١
بالليل﴾
(الأنعام : ٦٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤١
حتى لا تميزوا ولا تتصرفوا كما أن الموتى كذلك فالتي تتوفى عند النوم هي الأنفس التي يكون بها العقل والتمييز ولكل إنسان نفسان :
إحداهما : نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت ويزول بزوالها النفس والأخرى هي النفس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم يتنفس ﴿فيمسك التي قضى عليها الموت﴾ فلا يردها إلى جسدها، وقرأ حمزة والكسائي بضم القاف وكسر الضاد وفتح الياء بعد الضاد ورفع التاء من الموت، والباقون بفتح القاف والضاد وسكون الياء بعد الضاد ونصب الموت ﴿ويرسل الأخرى﴾ أي : يردها إلى جسدها وهي التي لم يقض عليها الموت ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي : إلى الوقت الذي ضربه لموتها، وقيل : يتوفى الأنفس أي : يستوفيها ويقبضها وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي أنفس التمييز، قالوا : والتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة ولأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس، ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس : التي بها العقل والتمييز، والروح : التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله تعالى نفسه ولم يقبض روحه. قال الزمخشري : والصحيح ما ذكر أولاً لأن الله تعالى علق التوفي والموت والمنام جميعاً بالأنفس وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام انتهى.
ويروى عن علي رضي الله تعالى عنه قال : يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا نبه من النوم عاد الروح إلى جسده بأسرع من لحظة، ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت العود إلى أجسادها أمسك الله تعالى أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها إلى أجل مدة حياتها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخل إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول : اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين".
﴿إن في ذلك﴾ أي : التوفي والإمساك والإرسال ﴿لآيات﴾ أي : دلالات على كمال قدرته وحكمته ورحمته. وقال مقاتل : لعلامات ﴿لقوم يتفكرون﴾ أي : فيعلمون أن القادر على ذلك قادر على البعث، فإن قيل : قوله تعالى ﴿الله يتوفى الأنفس﴾ (الزمر : ٤٢)


الصفحة التالية
Icon