﴿أولم يعلموا أن الله﴾ أي : الذي له الجلال والكمال ﴿يبسط الرزق﴾ أي : يوسعه ﴿لمن يشاء﴾ وإن كان لا حيلة له ولا قوة امتحاناً ﴿ويقدر﴾ أي : يضيق الرزق لمن يشاء وإن كان قوياً شديد الحيلة ابتلاء فلا قابض ولا باسط إلا الله تعالى، ويدل على ذلك أنّا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلابد لذلك من حكمة وسبب، وذلك السبب ليس هو عقل الإنسان وجهله فإنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأفلاك لأن الساعة التي ولد فيها ذلك الملك السلطان القاهر قد ولد فيها عالم أيضاً من الناس وعالم من الحيوان غير الإنسان وتولد أيضاً في تلك الساعة عالم من النبات.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٣
فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان العقلي القاطع صحة قوله تعالى :﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر﴾ قال الشاعر :
*فلا السعد يقضي به المشتري ** ولا النحس يقضي علينا زحل*
*ولكنه حكم رب السماء ** وقاضي القضاة تعالى وجل*
﴿إن في ذلك﴾ أي : البيان الظاهر ﴿لآيات﴾ أي : دلالات ﴿لقوم يؤمنون﴾ أي : بأن الحوادث كلها من الله تعالى بوسط أو غيره.
ولما ذكر تعالى الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته فقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٣
﴿قل﴾ يا محمد ربكم المحسن إليكم يقول ﴿يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم﴾ أي : أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي وإضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن ﴿لا تقنطوا﴾ أي : لا تيأسوا ﴿من رحمة الله﴾ أي : إكرام المحيط بكل صفات الكمال فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي يا عبادي بسكون الياء وتسقط في الوصل، وفتحها الباقون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي تقنطوا بكسر النون بعد القاف والباقون بفتحها ﴿إن الله﴾ أي : المتفضل على عباده المؤمنين ﴿يغفر الذنوب﴾ لمن تاب من الشرك ﴿جميعاً﴾ لمن يشاء كما قال تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ (النساء : ٤٨)
وأما الكافر إذا أسلم فإن الله تعالى لا يؤاخذه بما وقع من كفره قال تعالى :﴿قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف﴾ (الأنفال : ٣٨)
تنبيه : في هذه الآية أنواع من المعاني والبيان حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إليه إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى :﴿من رحمة الله﴾ ومنها
٥٤٦
إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله تعالى :﴿إن الله﴾ ومنها إبراز الجملة في قوله تعالى ﴿إنه هو﴾ أي : وحده ﴿الغفور﴾ أي : البليغ الغفر يمحو الذنوب عمن يشاء عيناً وأثراً فلا يعاقب ولا يعاتب ﴿الرحيم﴾ أي : المكرم بعد المغفرة مؤكدة بأن وبالفصل وبإعادة الصفتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما :"أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا النبي ﷺ وقالوا : إن الذي تدعو له لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة" فنزلت هذه الآية. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس :"أنها نزلت في وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما حين بعث إليه النبي ﷺ يدعوه إلى الإسلام، فأرسل إليه كيف تدعوني إلى دينك وأنت تزعم أن من قتل أو أشرك أو زنى يلقى أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة وأنا قد فعلت ذلك كله، فأنزل الله سبحانه وتعالى ﴿إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً﴾ (مريم : ٦٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٦
فقال وحشي : هذا شرط شديد لعلي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله تعالى ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى :﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ الآية قال : نعم هذا. فجاء فأسلم، فقال المسلمون : هذا له خاصة قال : بل للمسلمين عامة".
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا، وكنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عدلاً أبداً قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بيده، ثم بعثها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا.


الصفحة التالية
Icon