وروي عن ابن مسعود أنه دخل المسجد وإذا قاص يقص وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مذكر لم تقنط الناس ثم قرأ ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله﴾ وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله ﷺ يقول :"يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي" وروى الطبراني :"أنه ﷺ قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بها أي : بهذه الآية فقال رجل : يا رسول الله ومن أشرك ؟
فسكت ساعة ثم قال : إلاً من أشرك ثلاث مرات".
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال :"كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً ثم خرج يسأل، فإذا راهب فسأله فقال : هل لي توبة فقال : لا فقتله وجعل يسأل فقال رجل :
٥٤٧
ائت قرية كذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تقربي وإلى هذه أن تباعدي وقال : قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له". وفي رواية فقال له : إني قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة فقال : لا فقتله فكمل مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل على عالم فقال :"إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال : نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا إلى أن قال : فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة". وعن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب رسول الله ﷺ نرى أو نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم﴾ (محمد : ٣٣)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٦
فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا فقيل لنا : الكبائر والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب منها شيئاً خفنا عليه، ومن لم يصب منها شيئاً رجونا له فأنزل الله تعالى :﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله﴾ وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر.
ولما كان التقدير وأقلعوا عن ذنوبكم فإنها قاطعة عن الخير مبعدة عن الكمال عطف عليه استعظاماً قوله تعالى :
﴿وأنيبوا﴾ أي : ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم ﴿إلى ربكم﴾ أي : الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه ﴿وأسلموا﴾ أي : وأخلصوا ﴿له﴾ أعمالكم ﴿من قبل أن يأتيكم﴾ أي : وأنتم صاغرون ﴿العذاب﴾ أي : القاطع لكل عذوبة، المجرّع لكل مرارة وصعوبة ﴿ثم لا تنصرون﴾ أي : لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً إن لم تتوبوا.
﴿واتبعوا﴾ أي : عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع ﴿أحسن ما أنزل إليكم﴾ أي : على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فوق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله تعالى، واتباع أحاسن ما فيه فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون كأنك تراه الذي هو أعلى من استحضار أنه يراك الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك.
ولما كان هذا شديداً على النفس رغب فيه بقوله تعالى بمظهر صفة الإحسان موضع الإضمار :﴿من ربكم﴾ أي : الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. وقال الحسن رضي الله عنه : معنى الآية الزموا طاعته واجتنبوا معصيته فإن في القرآن ذكر القبيح لتجتنبه، وذكر الأدون لئلا ترغب فيه، وذكر الأحسن لتؤثره. وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ لقوله تعالى :﴿ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها﴾ (البقرة : ١٠٦)
وقيل : العزائم دون الرخص وقوله تعالى :﴿من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون﴾ أي : ليس عندكم شعور بإتيانه بوجه من الوجوه فيه تهديد وتخويف.
ولما خوفهم الله تعالى بهذا العذاب بين أنهم بتقدير نزوله عليهم ماذا يقولون، فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلام الأول : ما ذكره بقوله تعالى :
﴿أن﴾ أي : كراهة أن ﴿تقول نفسٌ﴾ أي : عند وقوع العذاب
٥٤٨
وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد ﴿يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله﴾ قال الحسن : قصرت في طاعة الله، وقال مجاهد : في أمر الله، وقال سعيد بن جبير : في حق الله وقيل : ضيعت في ذات الله، وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى والعرب تسمي الجانب جنباً، قال في "الكشاف" : هذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ألا ترى إلى قول الشاعر :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٦
إن السماحة والمروءة والندى ** في قبة ضربت على ابن الحشرج*


الصفحة التالية
Icon