أي : فإنه لم يصرح بثبوت هذه الصفات المذكورة لابن الحشرج بل كنى عن ذلك في قبة مضروبة عليه فأفاد اثباتها له، والقبة تكون فوق الخيمة تتخذها الرؤساء، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة والدوري عن أبي عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ﴿وإن﴾ أي : والحال إني ﴿كنت﴾ أي : كان ذلك في طبعي ﴿لمن الساخرين﴾ أي : المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة أي : تقول هذا لعله يقبل منها ويعفى عنها على عادة المعترفين في وقت الشدائد لعلهم يعاودون إلى أجمل العوائد. الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عنهم بعد نزول العذاب عليهم : ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٦
﴿أو تقول﴾ أي : تلك النفس المفرطة ﴿لو أن الله﴾ أي : الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ﴿هداني﴾ أي : لبيان الطريق ﴿لكنت من المتقين﴾ أي : الذين لا يقدمون على فعل إلا ما يدلهم عليه دليل. الثالث من الكلمات ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه :
﴿أو تقول﴾ أي : تلك النفس المفرطة ﴿حين ترى العذاب﴾ أي : الذي واجهها عياناً ﴿لو أن﴾ أي : يا ليت ﴿لي كرة﴾ أي : رجعة إلى دار العمل ﴿فأكون﴾ أي : يتسبب عن رجوعي إليها أن أكون ﴿من المحسنين﴾ أي : العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن.
تنبيه : في نصب فأكون وجهان أحدهما : عطفه على كرة فإنها مصدر فعطف مصدر مؤول
٥٤٩
على مصدر مصرح به كقولها :
*للبس عباءة وتقر عيني ** أحب إلي من لبس الشفوف*
والثاني : أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله تعالى :﴿لو أن لي كرة﴾ والفرق بين الوجهين أن الأول : يكون فيه الكون متمنى ويجوز أن تضمر أن وأن تظهر، والثاني : يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمنى لا متمنى ويجب أن تضمر أن. ثم أجاب الله تعالى هذا القائل بقوله سبحانه :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٩
بلى قد جاءتك أياتي﴾
أي : القرآن وهي سبب الهداية ﴿فكذبت بها﴾ أي : قلت ليست من عند الله ﴿واستكبرت﴾ أي : تكبرت عن الإيمان بها ﴿وكنت من الكافرين﴾.
فإن قيل : هلا قرن الجواب بما هو جواب له وهو قوله :﴿لو أن الله هداني﴾ (الزمر : ٥٧)
ولم يفصل بينهما ؟
أجيب : بأنه لا يخلو إما أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأول لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن، وأما الثاني فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية، ثم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب، فإن قيل : كيف صح أن تقع بلى جواباً لغير منفي ؟
أجيب : بأن قوله ﴿لو أن الله هداني﴾ بمعنى ما هديت.
﴿ويوم القيامة﴾ أي : الذي لا يصح في الحكمة تركه ﴿ترى﴾ أي : أيها المحسن ﴿الذين كذبوا على الله﴾ أي : الحائز لجميع صفات الكمال بنسبة الشريك والولد إليه، وقال الحسن : هم الذين يقولون إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل، قال البقاعي : وكأنه عنى من المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم إنهم يخلقون أفعالهم قال : ويدخل فيه من تكلم في الدين بجهل وكل من كذب وهو يعلم أنه كاذب في أي شيء كان، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله تعالى لا يعلم كذبه أي : ولا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله وقوله تعالى :﴿وجوههم مسودة﴾ جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية وقيل : في محل نصب مفعولاً ثانياً لأن الرؤية قلبية، ورد بأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما، وذكر أن هذا السواد مخالف لسائر أنواع السواد ﴿أليس في جهنم مثوى﴾ أي : مأوى ﴿للمتكبرين﴾ أي : الذين تكبروا على اتباع أمر الله تعالى وهو تقرير لأنهم يرونه كذلك.
ولما ذكر الله تعالى الذين أشقاهم أتبعهم حال الذين أسعدهم بقوله تعالى :
﴿وينجي الله﴾ أي : يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك ﴿الذين اتقوا﴾ أي : بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هنا من العقوبات ﴿بمفازتهم﴾ أي : بسبب فلاحهم لأن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة، ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بألف بعد الزاي جمعاً
٥٥٠
على أن لكل متق مفازة، والباقون بغير ألف بعد الزاي إفراداً وقوله تعالى ﴿لا يمسهم السوء﴾ جملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما مفازتهم ؟
فقال : لا يمسهم السوء فلا محل لها، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الذين اتقوا، ومعنى الكلام لا يمسهم مكروه ﴿ولا هم يحزنون﴾ أي : ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنه لا يفوت لهم شيء أصلاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٩


الصفحة التالية
Icon