ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا القادر المبدع القيوم قال تعالى مستأنفاً أو معللاً، مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام :
﴿الله﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً والذي نجاهم ﴿خالق كل شيء﴾ أي : من خير وشر وإيمان وكفر فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه.
ولما دل هذا على القدرة الشاملة وكان لا بد معها من العلم الكامل قال تعالى :﴿وهو على كل شيء﴾ أي : مع القهر والغلبة ﴿وكيل﴾ أي : حفيظ لجميع ما يريده قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة وقوله تعالى :
﴿له مقاليد السموات والأرض﴾ جملة مستأنفة والمقاليد جمع مقلاد مثل مفتاح ومفاتيح أو مقليد مثل منديل ومناديل أي : هو مالك أمرها وحافظها وهي من باب الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي المفاتيح والكلمة أصلها فارسية، فإن قيل : ما للكتاب المبين والفارسية ؟
أجيب : بأن التعريب قد أحالها عربية كما أخرج استعمال المهمل عن كونه مهملاً، قال الزمخشري :"سأل عثمان النبي ﷺ عن تفسير قوله تعالى :﴿له مقاليد السموات والأرض﴾ فقال : يا عثمان ما سألني أحد عنها قبلك تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير". وروى هذا الطبراني بسند ضعيف بل رواه ابن الجوزي في الموضوعات، ثم قال الزمخشري وتأويله على هذا : أن الله تعالى في هذه الكلمات يوحد بها ويمجد وهي مفاتيح خير السموات والأرض من تكلم بها من المتقين أصابه، وقال قتادة ومقاتل : مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة وقال الكلبي : خزائن المطر والنبات.
ولما وصف الله تعالى بالصفة الإلهية والجلالة وهو كونه خالقاً للأشياء وكونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده :﴿والذين كفروا﴾ أي : لبسوا ما اتضح من الدلالات وجحدوا ﴿بآيات الله﴾ أي : دلائل قدرته الظاهرة الباهرة ﴿أولئك﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿هم الخاسرون﴾ لأنهم خسروا أنفسهم وكل شيء متصل بها على وجه النفع، وقال الزمخشري :﴿والذين كفروا﴾ متصل بقوله :﴿وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم﴾ (الزمر : ٦١)
واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها وأن له مقاليد السموات والأرض، واعترضه الرازي : بأن وينجي جملة فعلية والذين كفروا جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الفعلية لا يجوز واعترض الآخر بأنه لا مانع من ذلك.
٥٥١
ولما دعا كفار قريش النبي ﷺ إلى دين آبائهم قال الله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٩
قل﴾
أي : لهم ﴿أفغير الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿تأمروني أعبد أيها الجاهلون﴾ أي : العريقون في الجهل لأن الدليل القاطع قد قام بأن الله تعالى هو المستحق للعبادة فمن عبد غيره فهو جاهل، وقرأ نافع بتخفيف النون وفتح الياء وابن كثير بتشديد النون وسكون الياء، وابن عامر بنونين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وسكون الياء والباقون بتشديد النون وسكون الياء.
﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ أي : الذي عملته قبل الشرك، فإن قيل : الموحى إليهم جماعة فكيف قال لئن أشركت على التوحيد ؟
أجيب : بأن تقدير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي : أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت كما تقول : كسانا حلة أي : كل واحد منا، فإن قيل : كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم ؟
أجيب : بأن قوله تعالى :﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ قضية شرطية، والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزئها، ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجاً لكانت منقسمة بمتساويين، قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق قال تعالى :﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ (الأنبياء : ٢٢)
ولم يلزم من هذا صدق أن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا أو أن الخطاب للنبي ﷺ والمراد به غيره كما قاله أكثر المفسرين أو أن ذلك على سبيل الفرض المحال ذكر ليكون ردعاً للأتباع.
ولما كان السياق للتهديد وكانت العبارة شاملة لما تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وهي ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر﴾ (البقرة : ٢١٧)
قال تعالى :﴿ولتكونن﴾ أي : لأجل حبوطه ﴿من الخاسرين﴾ فإن من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته أما من أسلم بعد ردته فإنما يحبط ثواب عمله لا عمله كما نص عليه الشافعي.
تنبيه : اللام الأولى موطئة للقسم والأخريان للجواب.
ولما كان التقدير لا تشرك بنا عطف عليه قوله تعالى :
﴿بل الله﴾ أي : المتصف بصفات الكمال وحده ﴿فاعبد﴾ أي : مخلصاً له العبادة ﴿وكن من الشاكرين﴾ أي : العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق أجمعين.


الصفحة التالية
Icon