ولما حكى الله تعالى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول أن يعبد الله ولا يعبد سواه، وبين أنهم لو عرفوا الله تعالى حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية قال :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٩
وما قدروا الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿حق قدره﴾ أي : ما عظموه حق عظمته حين أشركوا به غيره مع أنهم لو استغرقوا الزمان كله في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره.
ولما بين أنهم ما عظموه تعظيماً لائقاً به أردفه بما يدل على كمال عظمته بقوله تعالى :﴿والأرض جميعاً قبضته﴾ وهو مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي : ما عظموه حق عظمته والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة كقوله تعالى :﴿كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم﴾ (البقرة : ٢٨)
أي : كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا، وجميعاً حال وهي دالة
٥٥٢
على أن المراد بالأرض : الأرضون لأن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع، وقدم الأرض على السموات لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها.
ولما كان في هذه الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال تعالى :﴿يوم القيامة﴾ ولا قبضة هناك لا حقيقة ولا مجازاً وكذا الطي واليمين وإنما هو تمثيل وتخييل لتمام القدرة.
ولما كانوا يعلمون أن السموات سبع متطابقة بما يشاهدونه من سير النجوم جمع ليكون مع جميعاً كالتصريح في جمع الأرض أيضاً في قوله تعالى :﴿والسموات مطويات﴾ أي : مجموعات ﴿بيمينه﴾ قال الإمام الرازي : وههنا سؤالات ؛ الأول : أن العرش أعظم من السموات السبع والأرضين السبع ثم إنه تعالى قال في صفة العرش ﴿ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية﴾ (الحاقة : ١٧)، فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم فكيف يجوز تقرير عظمة الله عز وجل بكونه حاملاً للسموات والأرض ؟
وأجاب : بأن مراتب التعظيم كثيرة.
فأولها : تقرير الله بكونه قادراً على هذه الأجسام العظيمة كما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة عظيم، ثم بعده تقرير عظمته بكونه قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش.
السؤال الثاني : قوله تعالى :﴿والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه﴾ شرح حال لا تحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم معترفون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم، وإن كان الخطاب مع المكذبين بالنبوة فهم ينكرون قوله تعالى :﴿والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة﴾ فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك ؟
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٩
وأجاب عنه : بأن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأرضين من وجوه العمارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإفنائها يوم القيامة، وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق، فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض وذلك يدل على كمال الاستغناء.
السؤال الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرته تعالى، فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة ؟
وأجاب : بأنه خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا.
ولما كان هذا إنما هو تمثيل يعهد والمراد به الغاية في القدرة نزه نفسه المقدس عما ربما نسبه له المجسم والمشبه فقال تعالى :﴿سبحانه﴾ أي : تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص ﴿وتعالى﴾ علو الإيحاط به ﴿عما يشركون﴾ معه لأنه لو كان له شريك ينازعه في هذه القدرة أو بعضها لمنعه شيئاً منها وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء البتة. روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره عن عبد الله بن مسعود قال :"جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال : إذا كان يوم القيامة جعل الله تعالى السموات على إصبع والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول : أنا الملك. فلقد رأيت النبي ﷺ يضحك حتى بدت
٥٥٣