نواجذه تعجباً وتصديقاً لقول الحبر ثم قرأ النبي ﷺ ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾ الآية" وإنما ضحك ﷺ وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهم علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، وإنما يدل ذلك على القدرة الباهرة وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأذهان هينة عليه هواناً لا يصل السامع إلى الوقوف عليه إلا بإجراء العبارة في مثل هذه الطريقة على التخييل.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله ﷺ "يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبابرة أين المتكبرون، ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون". وللبخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال :"يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض". قال أبو سليمان الخطابي : ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من وصف اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف، وقد ورد كلتا يديه يمين وليس عندنا معنى اليد الجارحة وإنما هي صفة جاء بها التوقيف فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها وننتهي حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة رضي الله تعالى عنهم، وقال سفيان ابن عيينة : كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه انتهى. وقد قدمنا أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه وأن الخلف يؤولونه والأول أسلم والثاني أحكم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٩
ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضاً على كمال العظمة وهو شرح مقدمات يوم القيامة فقال :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤٩
﴿ونفخ في الصور﴾ أي : القرن النفخة الأولى لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم
٥٥٤
﴿فصعق﴾ أي : مات ﴿من في السموات ومن في الأرض﴾ واختلف فيمن استثنى الله تعالى بقوله سبحانه :﴿إلا من شاء الله﴾ فقال الحسن : هو الله وحده وقال ابن عباس : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ثم يميت الله تعالى ميكائيل وإسرافيل وجبريل وملك الموت، وقيل : حملة العرش، وقيل : الحور والولدان، وقيل : الشهداء لقوله تعالى :﴿بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ (آل عمران : ١٦٩)
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال :"هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش". وقال جابر : هو موسى عليه السلام لأنه صعق فلا يصعق ثانياً وقال قتادة : الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم وهذا أسلم، ﴿ثم نفخ فيه﴾ أي : في الصور نفخة ﴿أخرى﴾ أي : نفخة ثانية ﴿فإذا هم﴾ أي : جميع الخلائق الموتى ﴿قيام﴾ أي : قائمون ﴿ينظرون﴾ أي : يقبلون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب جسيم، وقيل : ينتظرون أمر الله تعالى فيهم وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن لفظة ثم للتراخي، وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : أن رسول الله ﷺ قال :"ما بين النفختين أربعون قالوا : أربعون يوماً، قال أبو هريرة : أبيت، قالوا : أربعون شهراً، قال : أبيت، قالوا : أربعون سنة، قال : أبيت، قال : ثم ينزل الله تعالى من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة" وقوله تعالى :﴿فإذا هم﴾ يدل على أن قيامهم يحصل عقب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء تدل على التعقيب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٥٤
ولما ذكر تعالى إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن أتبعه بنور أرض القيامة فقال :
﴿وأشرقت﴾ أي : أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة ﴿الأرض﴾ أي : التي أوجدت لحشرهم وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى :﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض﴾ (إبراهيم : ٨)
. ﴿بنور ربها﴾ أي : خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه قال ﷺ "سترون ربكم" وقال :"كما لا تضارون في الشمس في يوم الصحو" وقال الحسن والسدي : بعدل ربها. ﴿ووضع الكتاب﴾ أي : كتاب الأعمال للحساب لقوله تعالى :﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً﴾ (الإسراء : ١٣)
وقوله تعالى :﴿ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ (الكهف : ٤٩)