وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ تقابل به الصحف، وقيل : الكتاب الذي أنزل إلى كل أمة تعمل به، واقتصر على هذا البقاعي. ﴿وجيء بالنبيين﴾ أي : للشهادة على أممهم واختلف في قوله تعالى :﴿والشهداء﴾ فقال ابن عباس : يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم : محمد ﷺ وأصحابه لقوله تعالى :﴿جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس﴾ (البقرة : ١٤٣)
وقال عطاء ومقاتل : يعني الحفظة لقوله تعالى :﴿وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد﴾ (ق : ٢١)
وقيل : هم المستشهدون في سبيل الله.
٥٥٥
ولما بين تعالى أنه يوصل إلى كل واحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها قوله تعالى :﴿وقضى بينهم﴾ أي : العباد ﴿بالحق﴾ أي : العدل، ثانيها : قوله تعالى :﴿وهم لا يظلمون﴾ أي : لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، ثالثها : قوله تعالى :
﴿ووفيت كل نفس ما عملت﴾ أي : جزاء ما عملته، رابعها : قوله تعالى :﴿وهو أعلم بما يفعلون﴾ أي : فلا يفوته شيء من أفعالهم ثم فصل التوفية بقوله تعالى مقدماً أهل الغضب :
﴿وسيق الذين كفروا﴾ أي : بالعنف والدفع ﴿إلى جهنم﴾ كما قال تعالى :﴿يوم يدعون إلى نار جهنم دعا﴾ (الطور : ١٣)
أي : يدفعون إليها دفعاً وقوله تعالى :﴿زمراً﴾ حال أي : جماعات في تفرقة بعضهم على أثر بعض كل أمة على حدة. ﴿حتى إذا جاؤوها﴾ أي : على صفة الذل والصغار، وأجاب إذا بقوله تعالى :﴿فتحت أبوابها﴾ أي : السبعة وكانت مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها، وقرأ الكوفيون فتحت وفتحت الآتية بالتخفيف والباقون بالتشديد على التكثير. ﴿وقال لهم خزنتها﴾ إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً ﴿ألم يأتكم رسل منكم﴾ أي : من جنسكم لأن قيام الحجة بالجنس أقوى ﴿يتلون﴾ أي : يتلون مرة بعد مرة وشيئاً في إثر شيء ﴿عليكم آيات ربكم﴾ أي : المحسن إليكم من القرآن وغيره ﴿وينذرونكم﴾ أي : يخوفونكم ﴿لقاء يومكم﴾ وقولهم ﴿هذا﴾ إشارة إلى يوم البعث، فإن قيل : لم أضيف إليهم اليوم ؟
أجيب : بأنهم أرادوا لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة، قال الزمخشري : وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضاً في أوقات الشدة، ويجوز أن يراد باليوم يوم البعث كله وجرى عليه البقاعي وهو أولى ولما قال لهم الخزنة ذلك ﴿قالوا بلى﴾ أتونا وتلوا علينا وحذرونا ﴿ولكن حقت﴾ أي : وجبت ﴿كلمة العذاب﴾ أي : التي سبقت في الأزل علينا هكذا كان الأصل ولكنهم قالوا ﴿على الكافرين﴾ تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم الأنوار التي أتتهم بها الرسل عليهم الصلاة والسلام.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٥٤
تنبيه : في الآية دليل على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا لهم أنهم ما بقي لهم عذر ولا على بعد مجيء الرسل عليهم الصلاة والسلام، فلو لم يكن مجيء الرسل شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة، وقيل : كلمة العذاب هي قوله تعالى :﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ (هود : ١١٩)
ثم كأنه قيل : فماذا وقع بعد هذا التقريع ؟
﴿قيل﴾ : وقع أن الملائكة قالت لهم ﴿ادخلوا أبواب جهنم﴾ أي : طبقاتها المتجهمة لداخلها ﴿خالدين﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿فيها﴾ ولما كان سبب كفرهم بالآيات هو التكبر قالوا لهم :﴿فبئس مثوى﴾ أي : منزل ومقام ﴿المتكبرين﴾ أي : الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم فلذلك تعاطوا أسبابها.
ولما ذكر تعالى أحوال الكافرين أتبعه أحوال أضدادهم فقال عز من قائل :
﴿وسيق الذين اتقوا ربهم﴾ أي : الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة ﴿إلى الجنة﴾ وقوله تعالى :﴿زمراً﴾ حال أي : جماعات أهل الصلاة المستكثرين منها على حدة وأهل الصوم كذلك إلى غير ذلك من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه.
فإن قيل : السوق في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يساقوا إليه وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأي حاجة فيه إلى
٥٥٦
السوق ؟
أجيب : بأن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل، والمراد بسوق أهل الجنة : سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين سراعاً إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين هذا سوق تشريف وإكرام وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا من بدائع أنواع البديع وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وهيئتها في حق المؤمنين فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم فسبحان من أنزله معجز المباني وتمكن المعاني عذب الموارد والمثاني.
وقيل : إن المحبة والصداقة باقية بين المتقين إلى يوم القيامة كما قال تعالى :﴿الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدواً إلا المتقين﴾ (الإحزاب : ٦٧)


الصفحة التالية
Icon