ولما كان هؤلاء أقوى الأمم اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال :﴿والذين من بعدهم﴾ أي : بالقرب من زمانهم كقوم لوط ﴿وما الله﴾ أي : الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿يريد ظلماً للعباد﴾ أي : فلا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ولا يهلكهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام وهو أبلغ من قوله تعالى :﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾ (فصلت : ٤٦)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٧٣
من حيث أن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم.
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر قال :
﴿ويا قوم إني أخاف عليكم﴾ وقوله :﴿يوم التناد﴾ أجمع المفسرون أنه يوم البعث وفي تسميته بهذا الاسم وجوه ؛ أولها : أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار كما حكى الله تعالى عنهم، ثانيها : قال الزجاج : هو قوله تعالى ﴿يوم ندعو كل أناس بإمامهم﴾ (الإسراء : ٧١)
ثالثها : ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والثبور فيقولون يا ويلنا. رابعها : ينادون إلى المحشر. خامسها : ينادى المؤمن ﴿هاؤم اقرؤوا كتابيه﴾ (الحاقة : ١٩)
والكافر ﴿يا ليتني لم أوت كتابيه﴾ (الحاقة : ٢٥)
. سادسها : ينادى باللعنة على الظالمين. سابعها : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار ثم ينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. ثامنها : ينادى بالسعادة والشقاوة إلا أن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً وفلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً وهذه الأمور كلها تجتمع في هذا اليوم فلا بد من تسميته بها كلها.
ولما كان عادة المتنادين الإقبال وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال تعالى مبدلاً أو مبيناً :
﴿يوم تولون﴾ أي : عن الموقف ﴿مدبرين﴾ قال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار وفروا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى أماكنهم فذلك قوله تعالى :﴿والملك على إرجائها﴾ (الحاقة : ١٧)
وقوله تعالى :﴿يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان﴾ (الرحمن : ٣٣)
وقال مجاهد : فارين من النار غير معجزين، وقيل : منصرفين عن الموقف إلى النار ثم أكد التهديد بقوله تعالى :﴿مالكم من الله﴾ أي : الملك الجبار الذي لا يذل ﴿من عاصم﴾ أي : من فئة تحميكم وتنصركم وتمنعكم من عذابه.
٥٧٦
ثم نبه على قوة ضلالهم وشدة جهالتهم فقال تعالى :﴿ومن يضلل الله﴾ أي : الملك المحيط بكل شيء ﴿فما له من هاد﴾ أي : إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه.
تنبيه : في قراءة هاد ما تقدم في قوله :﴿من واق﴾ (الرعد : ٣٤)
ولما قال لهم مؤمن آل فرعون :﴿ومن يضلل الله فما له من هاد﴾ ذكر لهم مثالاً بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٧٣
﴿ولقد جاءكم﴾ أي : جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد ومن أنهم على طبعهم لا سيما أن كانوا لم يفارقوا مساكنهم ﴿يوسف﴾ أي : نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام ﴿من قبل﴾ أي : قبل زمن موسى عليه السلام ﴿بالبينات﴾ أي : الآيات الظاهرات لا سيما في أمر يوم التناد ﴿فما زلتم﴾ أي : ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم ﴿في شك﴾ أي : محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن ﴿مما جاءكم به﴾ من التوحيد، وقال ابن عباس : من عبادة الله وحده لا شريك له فلم تنتفعوا البتة بتلك البينات ودل على تمادي شكهم بقوله تعالى :﴿حتى إذا هلك﴾ فهو غاية أي : فما زلتم في شك حتى هلك ﴿قلتم لن يبعث الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿من بعده﴾ أي : يوسف عليه السلام ﴿رسولاً﴾ أي : أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة، وهذا ليس إقراراً منهم برسالته بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته والتكذيب برسالة من بعده وقوله تعالى :﴿كذلك﴾ خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر كذلك أو مثل هذا الضلال ﴿يضل الله﴾ أي : بما له من صفات القهر ﴿من هو مسرف﴾ أي : مشرك متغال في الأمور خارج عن الحدود ﴿مرتاب﴾ أي : شاك فيما تشهد به البينات بغلبة الوهم والانهماك في التقليد.
٥٧٧
ثم بين تعالى ما لأجله بقوا في الشك والإسراف فقال سبحانه :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٧٧