ولما خوفهم بذلك توعدوه وخوفوه بالقتل فعوّل في دفع تخويفهم وكبرهم ومكرهم على الله تعالى بقوله :﴿وأفوض﴾ أي : أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله ﴿أمري﴾ أي : فيما تمكرونه بي ﴿إلى الله﴾ أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً فهو يحمي منكم من شاء وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام حين خوفه فرعون بالقتل فرجع موسى عليه السلام في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال : إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٨٠
ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة علل ذلك بقوله :﴿إن الله﴾ أي : الذي لا يخفى عليه شيء ﴿بصير﴾ أي : بالغ العلم ﴿بالعباد﴾ ظاهراً وباطناً فيعلم من يستحق النصرة فينصره لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة، قال مقاتل : فلما قال هذه الكلمات قصدوا قتله.
﴿فوقاه الله﴾ أي : حصل له وقاية تنجيه منهم جزاء على تفويضه ﴿سيئات﴾ أي : شدائد ﴿ما مكروا﴾ ديناً ودنيا فنجاه مع موسى عليه السلام، قال قتادة : وكان قبطياً تصديقاً لوعده سبحانه بقوله تعالى :﴿أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ (القصص : ٣٥)
ولما كان المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله قال تعالى :﴿وحاق﴾ أي : نزل محيطاً بعد إحاطة الإغراق ﴿بآل فرعون﴾ أي : فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم هذا إن قلنا أن الآل مشترك بين الشخص وأتباعه وإن لم نقل ذلك فالإحاقة بفرعون من باب أولى لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه ﴿سوء العذاب﴾ أي : الغرق في الدنيا والنار في الآخرة، فإن قيل : قوله تعالى :﴿وحاق بآل فرعون سوء العذاب﴾ معناه : أنه رجع إليهم
٥٨١
ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً، فإذا فسر سوء العذاب بالغرق في الدنيا ونار جهنم في الآخرة لم يكن مكرهم راجعاً إليهم لأنهم لا يعذبون بذلك ؟
أجيب : بأنهم هموا بشر فأصابهم ما وقع عليه اسم السوء ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه وقوله تعالى :
﴿النار﴾ في إعرابه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه بدل من سوء العذاب، قاله الزجاج، ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو أي : سوء العذاب النار لأنه جواب لسؤال مقدر وقوله تعالى :﴿يعرضون﴾ على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من النار وأن يكون حالاً من آل فرعون، ثالثها : أنه مبتدأ وخبره يعرضون ﴿عليها غدواً وعشياً﴾ أي : صباحاً ومساء، قال ابن مسعود : أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار ويقال : يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة. وقال قتادة : تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشياً ما دامت الدنيا. وروى ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال :"إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى يوم القيامة".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٨٠
ثم أخبر الله تعالى عن مستقر آل فرعون يوم القيامة بقوله سبحانه وتعالى :﴿ويوم تقوم الساعة﴾ يقال لهم :﴿أدخلوا آل﴾ أي : يا آل ﴿فرعون﴾ أي : هو بنفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به ﴿أشد العذاب﴾ وهو عذاب جهنم، أجارنا الله تعالى نحن وأحباءنا منها فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم، وهذه الآية نص على إثبات عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الخاء وصلاً وابتداء على أمر الملائكة بإدخالهم النار، والباقون بوصل الهمزة وضم الخاء وصلاً في الابتداء بضم الهمزة واختلف في العامل في قوله تعالى :
﴿وإذا﴾ على ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه معطوف على غدواً فيكون معمولاً ليعرضون على النار في هذه الأوقات كلها، قاله أبو البقاء، ثانيها : أنه معطوف على قوله إذا القلوب لدى الحناجر قاله الطبري ونظر فيه لبعد ما بينهما، وثالثها : أنه منصوب بإضمار اذكر أي : واذكر يا أشرف الخلق لقومك إذ ﴿يتحاجون﴾ أي : الكفار ﴿في النار﴾ أي : يتخاصمون فيها أتباعهم ورؤساؤهم مما لا يغنيهم ﴿فيقول الضعفاء﴾ أي : الأتباع ﴿للذين استكبروا﴾ أي : طلبوا أن يكونوا كبراءهم الرؤساء ﴿أنا كنا لكم﴾ أي : دون غيركم ﴿تبعاً﴾ أي : أتباعاً فتكبرتم على الناس بنا ﴿فهل أنتم﴾ أيها الكبراء ﴿مغنون﴾ أي : كافون ومجزئون وحاملون ﴿عنا نصيباً من النار﴾.
تنبيه : تبعاً اسم جمع لتابع ونحوه خادم وخدم، قال البغوي : والتبع يكون واحداً وجمعاً في قول أهل البصرة واحده تابع، وقال الكوفيون : هو جمع لا واحد له وجمعه أتباع، وقيل : إنه مصدر واقع موقع اسم الفاعل أي : تابعين، وقيل : مصدر ولكنه على حذف مضاف أي : ذوي تبع
٥٨٢


الصفحة التالية
Icon