﴿ذلكم﴾ أي : أيها المخاطبون ﴿الله﴾ أي : الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه فيها أحد ﴿ربكم﴾ أي : المربي لكم المحسن إليكم ﴿خالق كل شيء﴾ أي : بما ثبت من تمام قدرته لأنه ﴿لا إله إلا هو﴾ أي : هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية فهي أخبار مترادفة وإذا كان خالق كل شيء ﴿فأنى﴾ أي : فكيف ومن أي وجه ﴿تؤفكون﴾ أي : تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٨٦
كذلك﴾
أي : مثل هذا الصرف البعيد عن مناهج العقلاء ﴿يؤفك﴾ أي : يصرف ﴿الذين كانوا﴾ أي : مطبوعين على أنهم ﴿بآيات الله﴾ أي : ذي الجلال والكمال ﴿يجحدون﴾ أي : ينكرون عناداً ومكابرة.
ولما كان دلائل وجوده تعالى إما أن تكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام وذكر منها أحوال الليل والنهار كما تقدم، ذكر أيضاً منها ههنا الأرض والسماء فقال تعالى :
﴿الله﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿الذي جعل﴾ أي : وحده ﴿لكم الأرض﴾ أي : مع كونها فراشاً ممهداً ﴿قراراً﴾ مع كونها في غاية الثقل ولا ممسك لها سوى قدرته ﴿والسماء﴾ أي : على علوها وسعتها مع كونها أفلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل والنهار والأظلام ﴿بناء﴾ مظلة كالقبة من غير عماد وحامل. ثم ذكر دلائل النفس وهي دلالة أحوال بدن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم بقوله تعالى :﴿وصوركم﴾ والتصوير على غير نظام واحد لا يكون إلا بقدرة قادر تام القدرة مختار ﴿فأحسن صوركم﴾ على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها لم يخلق الله تعالى حيواناً أحسن صورة من الإنسان كما قال تعالى :﴿في أحسن تقويم﴾ (التين : ٤)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الإنسان قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده وغير ابن آدم يتناول بفيه.
ولما ذكر تعالى المساكن والساكن ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال سبحانه ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ أي : الشهية الملائمة للطباع وقيل : هو ما خلق الله تعالى لعباده من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب، وعن الحسن : أنه قال لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام : إن الأرض لا تسعهم قال الله تعالى : فإني جاعل موتاً، قالوا : إذاً لا يهنأ لهم العيش قال تعالى : فإني جاعل أملاً.
ولما دل هذا على التفرد قال تعالى على وجه الإنتاج ﴿ذلكم﴾ أي : الرفيع الدرجات ﴿الله﴾ أي : المالك لجميع الملك ﴿ربكم﴾ أي : المحسن إليكم لا غيره ﴿فتبارك﴾ أي : ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض ﴿الله﴾ المختص بالكمال ﴿رب العالمين﴾ كلهم فهو المحسن إليهم بالتربية وغيرها. ثم نبه تعالى بقوله سبحانه :
﴿هو الحي﴾ بما يفيد الحصر بأنه لا حي على الدوام إلا هو ثم نبه تعالى على وحدانيته بقوله سبحانه :﴿لا إله إلا هو﴾ ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال تعالى :﴿فادعوه﴾ أي : اعبدوه ﴿مخلصين له الدين﴾ أي : من كل شرك جلي أو خفي.
٥٩٠
ولما كان تعالى موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له :﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي : المسمى بهذا الاسم الجامع لمجامع معاني الأسماء الحسنى ﴿رب العالمين﴾ أي : الذي رباهم هذه التربية، وقال الفراء : هو خبر وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحمدوه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال لا إله إلا الله فليقل : على أثرها الحمد لله رب العالمين.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٨٦
ولما أورد على المشركين تلك الأدلة الدالة على إثبات إله العالم أمره بقوله تعالى :
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء الذين يجادلونك في البعث مقابلاً لإنكارهم بالتوكيد ﴿إني نهيت﴾ أي : ممن لا نهي لغيره نهياً عاماً ببراهين العقول ونهياً خاصاً بأدلة النقل ﴿أن أعبد الذين تدعون﴾ أي : تعبدون ﴿من دون الله﴾ أي : الذي له الكمال كله، قال البقاعي : ودل على أنه ما كان متعبداً قبل البعثة بشرع أحد بقوله :﴿لما جاءني البينات﴾ أي : الحجج وهي ما تقدم من الدلائل الدالة على أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا له وأما الأحجار المنحوتة والأخشاب المصورة فلا تصح أن تكون شركاء له. ثم نبه على أنه تعالى كما يستحق الإفراد بالعبادة لذاته يستحقها شكراً لإحسانه بقوله :﴿من ربي﴾ أي : المربي لي تربية خاصة هي أعلى من كل مخلوق سواي فأنا أعبده عبادة تفوق عبادة كل عابد.
ولما أمره بما ينهى عنه أمره بما يتحلى به فقال :﴿وأمرت أن أسلم﴾ أي : حين دعي إلى الكفر ﴿لرب العالمين﴾ لأن كل ما سواه مربوب له فالإقبال عليه خسار وإذا نهى ﷺ عن ذلك وأمر بهذا لكون الآمر والناهي هو رب العالمين كان غيره مشاركاً له في ذلك لا محالة.


الصفحة التالية
Icon