ولما استدل تعالى على إثبات الإلهية بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهار والأرض والسماء، ثم ذكر الليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان ؛ أحدهما : حسن الصورة ورزق الطيبات، ذكر النوع الثاني : وهو كيفية تكوين البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٨٦
٥٩١
﴿هو﴾ أي : لا غيره ﴿الذي خلقكم من تراب﴾ أي : بخلق أبيكم آدم عليه السلام منه، قال الرازي : وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية كلها منتهية إلى النبات، والنبات إنما يكون من التراب والماء، فثبت أن كل إنسان متكون من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفة كما قال تعالى :﴿ثم من نطفة﴾ أي : من مني ﴿ثم من علقة﴾ أي : دم غليظ متباعد حاله عن حال النطفة كما كان حال النطفة متباعداً عن حال التراب ﴿ثم﴾ بعد أن جرت شؤون أخرى ﴿يخرجكم﴾ أي : يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء ﴿طفلاً﴾ أي : أطفالاً والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً ﴿ثم﴾ يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال ﴿لتبلغوا أشدكم﴾ أي : تكامل قوتكم من الثلاثين سنة إلى الأربعين وعن الشعبي صغر الغلام لسبع سنين ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين وينتهي عقله لثمان وعشرين ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين ﴿ثم﴾ يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول ﴿لتكونوا شيوخاً﴾ ضعفاء غرباء قد ماتت قوتكم ووهنت أركانكم، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم الشين والباقون بكسرها ﴿ومنكم من يتوفى﴾ بقبض روحه ﴿من قبل﴾ أي : قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية أو قبل هذه الأحوال إذا خرج.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩١
تنبيه : قوله تعالى :﴿لتبلغوا أشدكم﴾ متعلق قال الزمخشري : بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا أشدكم وكذلك لتكونوا وأما قوله :﴿ولتبلغوا﴾ أي : كل واحد منكم ﴿أجلاً مسمى﴾ فمعناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل : يوم القيامة ﴿ولعلكم تعقلون﴾ أي : ما في ذلك من العبر والحجج وتستدلون بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى.
ولما ذكر تعالى انتقال الأجسام من كونها تراباً إلى أن بلغت الشيخوخة واستدل بهذه التقديرات على وجود الإله القادر أنتج قوله تعالى :
﴿هو﴾ أي : لا غيره ﴿الذي يحيي ويميت﴾ كما تشاهدونه في أنفسكم فكما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات المتقدمة يدل على الإله القادر فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر.
ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿فإذا قضى أمراً﴾ أي أراد أي : أمر كان من القيامة أو غيرها ﴿فإنما يقول له كن فيكون﴾ فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة، وقرأ ابن عامر بنصب النون والباقون بالرفع وتقدم توجيه ذلك في سورة البقرة، ثم إنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات الله مخاطباً بذلك نبيه ﷺ فقال :
﴿ألم تر﴾ أي : يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً ﴿إلى الذين يجادلون﴾ أي : بالباطل ﴿في آيات الله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿أني﴾ أي : كيف ومن أي وجه ﴿يصرفون﴾ أي : عن التصديق وتكرير ذم المجادلة بتعدد المجادل والمجادل فيه أو للتوكيد وقوله تعالى :
﴿الذين كذبوا﴾ يجوز أن يكون بدلاً من
٥٩٢
الموصول قبله أو بياناً أو نعتاً أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوباً على الذم ﴿بالكتاب﴾ أي : بسببه في جمع ما له من الشؤون التي تفوق الحصر وهو القرآن أو بجنس الكتب السماوية ﴿وبما أرسلنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿به رسلنا﴾ أي : من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى :﴿فسوف يعلمون﴾ أي : بوعد صادق لا خلف فيه ما يحل بهم من سطواتنا وقوله تعالى :
﴿إذِ الأغلال في أعناقهم﴾ ظرف ليعلمون، فإن قيل : سوف للاستقبال وإذ للماضي فهو مثل قولك سوف أصوم أمس ؟
أجيب : بأن المعنى على إذا إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد والمعنى على الاستقبال قالوا وكما تقع إذا موقع إذ في قوله تعالى :﴿وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها﴾ (الجمعة : ١١)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩١