ورابعها : قوله تعالى ﴿فصلت آياته﴾ أي : ميزت وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها وصف ذات الله تعالى وصفات التنزيه والتقديس وشرح كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وعجائب أحوال خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان، وبعضها في المواعظ والنصائح، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قصص الأنبياء عليهم السلام وتواريخ الماضين وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن.
وخامسها : قوله تعالى :﴿قرآناً﴾ وقد مر توجيه هذا الاسم.
وسادسها : قوله تعالى :﴿عربياً﴾ أي : إنما نزل بلغة العرب ويؤيده قوله تعالى ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾ (إبراهيم : ٤)
وسابعها : قوله تعالى :﴿لقوم يعلمون﴾ أي : جعلناه قرآناً لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب بلغتهم ليفهموا منه المراد، وثامنها وتاسعها : قوله تعالى :
﴿بشيراً﴾ أي : لمن اتبع ﴿ونذيراً﴾ أي : لمن امتنع وانقطع، وعاشرها : قوله تعالى ﴿فأعرض أكثرهم﴾ أي : عن تدبره وقبولهم ﴿فهم﴾ لذلك ﴿لا يسمعون﴾ أي : يفعلون فعل من لم يسمع لأنهم لا يسمعون سماع تأمل وطاعة فهذه صفات عشر وصف الله تعالى القرآن بها.
واحتج القائلون بخلق القرآن بهذه الآية من وجوه أولها : أنه تعالى وصف القرآن بكونه منزلاً وتنزيلاً والمنزل والتنزيل مشعر بالتغيير من حال إلى حال فوجب أن يكون مخلوقاً، ثانيها : أن التنزيل مصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين، ثالثها : أن المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو المفعول المطلق وإما المكتوب الذي هو المفعول، رابعها : أن قوله تعالى :﴿فصلت آياته﴾ يدل على أن متصرفاً تصرف فيه بالتفصيل وذلك لا يليق بالقديم، خامسها : إنما سمي قرآناً لأنه قرن بعض أجزائه ببعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل، سادسها : وصفه بكونه عربياً وإنما صحت هذه النسبة لأن هذه الألفاظ إنما دلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم وما حصل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بد وأن يكون محدثاً
٥٩٩
ومخلوقاً. وأجاب أهل السنة بأن كل هذه الوجوه المذكورة عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات وهي حادثة، وذهب قوم إلى أن في القرآن من سائر اللغات كالاستبرق والسجل فإنهما فارسيان والمشكاة فإنها حبشية والقسطاس فإنه من لغة الروم وهذا فاسد لقوله تعالى :﴿قرآناً عربياً﴾ وقوله تعالى :﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾ (إبراهيم : ٤)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٩٨
ولما وصف الله تعالى القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه بين أنهم صرحوا بهذه النفرة، وذكر ثلاثة أشياء مذكورة عنهم في قوله تعالى :
﴿وقالوا﴾ أي : عند إعراضهم ممثلين في عدم قبولهم ﴿قلوبنا في أكنة﴾ أي : أغشية محيطة بها والأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء والكنان هو الذي تجعل فيه السهام والمعنى لانفقه ما تقول ﴿مما تدعونا﴾ أيها المخبر بأنه نبي ﴿إليه﴾ فلا سبيل إلى الوصول إليها لتفقه أصلاً، فإن قيل : هلا قالوا على قلوبنا أكنة كما قالوا :﴿وفي آذاننا﴾ أي : التي نسمع بها وهي أحد الطرق الموصلة إلى القلوب ﴿وقر﴾ أي : ثقل قد أصمها عن سماعه ليكون على نمط واحد ؟
أجيب : بأنه على نمط واحد لأنه لا فرق في المعنى بين قولك قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة، والدليل عليه قوله تعالى :﴿إنا جعلنا على قلوبهم أكنة﴾ (الكهف : ٥٧)
ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى، والمعنى : إنا في ترك القبول عنك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع ﴿ومن بيننا وبينك حجاب﴾ أي : حاجز من جبل أو نحوه فلا تلاقي ولا ترائي ﴿فاعمل﴾ أي : على دينك ﴿إننا عاملون﴾ على ديننا أو فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك، فإن قيل : هل لزيادة من في قولهم من بيننا وبينك حجاب فائدة ؟
أجيب : بنعم لأنهم لو قالوا وبيننا وبينك حجاب لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط بين الجهتين، وإما بزيادة من، فالمعنى أن الحجاب ابتداء منا وابتداء منك فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك كلها مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.
ولما أخبروا بإعراضهم وعللوا بعدم فهمهم لما يدعو إليه أمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً ﷺ بجواب يبين أنهم على محض العناد فقال تعالى :
﴿قل﴾ أي : لهؤلاء الذين عجزوا عن رد شيء من أمرك بشيء يقبله ذو عقل فادعوا ما ينادى عليهم بالعجز ﴿إنما أنا بشر مثلكم﴾ أي : لست غير بشر مما لا يرى كالملك والجني بل واحد منكم والبشر يرى بعضهم بعضاً ويسمعه ويبصره فلا وجه لما تقولونه أصلاً ﴿يوحى إلي﴾ أي : بطريق تخفى عليكم ولولا الوحي ما دعوتكم ﴿أنما إلهكم﴾ أي : الذي يستحق العبادة ﴿إله واحد﴾ لا غير واحد، وهذا ما دلت عليه الفطرة الأولى السوية وقامت عليه الأدلة العقلية وأيدتها في كل عصر الطرق النقلية وانعقد عليه الإجماع في أوقات الضرورة النفسانية، قال الحسن : علمه الله تعالى التواضع.


الصفحة التالية
Icon