ثم علل إيقاع ذلك بقوله تعالى :﴿إذ﴾ يجوز أن يكون ظرفاً لصاعقة وظرفيته لا تنافي عليته أي : حين ﴿جاءتهم﴾ أي : عاداً أو ثمود ﴿الرسل﴾ لأن الزمان الطويل يجوز نسبة ما وقع في جزء منه إليه ﴿من بين أيديهم﴾ أي : من قبلهم لأن نذير الأول نذير لكل من أتى بعده بأنه إن واقع ما واقعه أتاه ما عذب به ﴿ومن خلفهم﴾ وهم من أتى إليهم لأنهم لم يكونوا يعلمون إتيانهم فالخلف كناية عن الخفاء والقدام عن الجلاء وأنهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم فاعملوا فيهم كل حيلة فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض.
كما حكى الله تعالى عن الشيطان ﴿لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم﴾ (الأعراف : ١٧)
أي : لآتينهم من كل جهة، عن الحسن : أنذروهم من وقائع الله تعالى فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم، وأتوهم مقبلين عليهم ومدبرين عنهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم وأدغمها الباقون. ،
﴿أن﴾ أي : بأن ﴿لا تعبدوا إلا الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال جميعاً ﴿قالوا﴾ أي : الكفار لرسلهم ﴿لو شاء ربنا﴾ الذي ربانا أحسن تربية أن يرسل إلينا رسولاً ﴿لأنزل﴾ إلينا ﴿ملائكة﴾ فأرسلهم إلينا بما يريده منا لكنه لم يرسل ملائكة فلم يشأ أن يرسل رسولاً ﴿فإنا بما﴾ أي : بسبب ما ﴿أرسلتم به﴾ أي : على زعمكم بأنكم رسل ﴿كافرون﴾ إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.
روي :"أن أبا جهل قال في ملأ قريش : التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالسحر والشعر والكهانة وكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة : والله لقد علمت الشعر
٦٠٧
والسحر والكهانة وعلمت من ذلك علماً وما يخفى علي، فأتاه فقال له : يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فلم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا ؟
فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا، وإن كنت أردت الباء زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك ما تستعين به على ذلك، ورسول الله ﷺ ساكت فلما فرغ قال له رسول الله ﷺ أفرغت ؟
قال : نعم قال : فاسمع ثم إن النبي ﷺ تعوذ ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته﴾ إلى أن بلغ قوله تعالى ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم إلا ما سكت، ثم رجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صبأ فانطلقوا إليه وقالوا : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب عتبة وأقسم لا يكلم محمداً أبداً، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ولكني أتيته وقصصت عليه القصة وجاءني بشيء والله ما هو شعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى ﴿فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود﴾ فأمسكت بفيه وناشدته الرحم حتى سكت، ولقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٠٥
وفي رواية لمحمد بن كعب أنه قال : إني سمعت قرآناً والله ما سمعت بمثله قط ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة يا معشر قريش أطيعوني، خلوا بينكم وبين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه والله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظفر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وأنتم أسعد الناس به، قالوا : سحرك والله يا أبا لوليد بلسانه قال : هذا رأي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.
ولما جمعهم الله فيما اجتمعوا فيه حتى كأنهم تواصوا به، فصّلهم وفصّل ما اختلفوا فيه فقال مسبباً عما مضى من مقالاتهم :
﴿فأما عاد﴾ أي : قوم هود عليه السلام ﴿فاستكبروا﴾ أي : طلبوا الكبر وأوجدوه ﴿في الأرض﴾ أي : كلها التي كانوا فيها بالفعل وغيرها بالقوة أو في الكل بالفعل لكونهم ملكوها كلها، ثم بين كبرهم أنه ﴿بغير الحق﴾ أي : الذي لم يطابق الواقع، ثم ذكر تعالى سبب الاستكبار بقوله تعالى :﴿وقالوا من أشد منا قوة﴾ وذلك أن هوداً عليه السلام هددهم بالعذاب، فقالوا : نحن نقدر على دفع العذاب بفضل قوتنا، وكانوا ذوي أجسام طوال طول الطويل منهم أربعمائة ذراع كما سيأتي في سورة الفجر، قال الله تعالى رداً عليهم :
﴿أولم يروا﴾ أي : يعلموا علماً هو كالمشاهدة ﴿أن الله﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿الذي خلقهم﴾ ولم يكونوا شيئاً ﴿هو أشد منهم قوة﴾ ومن علم أن غيره أقوى منه وكان عاقلاً انقاد له فيما ينفعه ولا يضره، وقوله تعالى :﴿وكانوا بآياتنا يجحدون﴾ أي : يعرفون أنها حق وينكرونها، عطف على فاستكبروا.
﴿فأرسلنا﴾ أي : بسبب ذلك على مالنا من العظمة ﴿عليهم ريحاً﴾ أي : عظيمة ﴿صرصراً﴾


الصفحة التالية
Icon