﴿ومن أحسن قولاً﴾ أي : من جهة القول ﴿ممن دعا إلى الله﴾ أي : الذي عم بصفات كماله جميع الخلق، فقال ابن سيرين والسدي : هو رسول الله ﷺ دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وقال الحسن : هو المؤمن الذي أجاب الله تعالى دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب إليه ﴿وعمل﴾ أي : والحال أنه قد عمل ﴿صالحاً﴾ في نفسه ليكون ذلك أمكن لدعائه ﴿وقال إنني من المسلمين﴾ تفاخراً به وقطعاً لطمع المفسدين، وقال عكرمة : هم المؤذنون، وقالت عائشة رضي الله عنها : إن هذه الآيات نزلت في المؤذنين، وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه : وعمل صالحاً صلى ركعتين بين الأذان والإقامة، وعن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه
٦١٦
قال : قال رسول الله ﷺ بين كل أذانين صلاة ثلاث مرات ثم قال في الثالثة لمن شاء، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد.
﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة﴾ أي : الصبر والغضب والحلم والجهل والعفو والإساءة في الجزاء وحسن العاقبة.
تنبيه : في لا الثانية وجهان : أحدهما : أنها زائدة للتأكيد كقوله تعالى :﴿ولا الظل ولا الحرور﴾ (فاطر : ٢١)
لأن الاستواء لا يكتفي بواحد، الثاني : أنها مؤسسة غير مؤكدة، إذ المراد بالحسنة والسيئة الجنس، إذ لا تستوي الحسنات في أنفسها فإنها متفاوتة ولا تستوي السيئات أيضاً فرب واحدة أعظم من أخرى وهو مأخوذ من كلام الزمخشري ﴿ادفع﴾ كل ما يمكن أن يضرك من نفسك ومن الناس ﴿بالتي﴾ أي : بالخصال والأحوال التي ﴿هي أحسن﴾ على قدر الإمكان من الأعمال الصالحات والعفو عن المسيء حسن والإحسان إليه أحسن منه.
﴿فإذا الذي بينك وبينه عداوة﴾ عظيمة فاجأته حال كونه ﴿كأنه ولي﴾ أي : قريب فاعل ما يفعله القريب ﴿حميم﴾ أي : في غاية القرب لا يدع مهماً إلا قضاه وسهله ويسره وشفى علله وقرب بعيده وأزال درنه كما يزيل الماء الحار الوسخ، وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدواً مؤذياً لرسول الله ﷺ فأسلم وصار ولياً مصافياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦١٥
ثم نبه على عظيم فضل هذه الخصلة بقوله تعالى :
﴿وما يلقاها﴾ أي : على ما هي عليه من العظمة ﴿إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم﴾ من الفضائل النفسانية، وقال قتادة : الحظ العظيم الجنة أي : وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة وقوله تعالى :
﴿وإما﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة ﴿ينزغنك من الشيطان نزغ﴾ قال الزمخشري : النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبيه النخس، والشيطان ينزغ الإنسان كأنه ينخسه فيبعثه على ما لا ينبغي، وجعل النزغ نازغاً كما قيل : جد جده أو أريد وإما ينزغنك نازغ وصفاً للشيطان بالمصدر أو تسويله، والمعنى : وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن ﴿فاستعذ بالله﴾ أي : استجر بالملك الأعلى من شر الشيطان واطلب من الله الدخول في عصمته مبادراً إلى ذلك وامض على شأنك ولا تطعه وتوكل على الله تعالى ﴿إنه هو﴾ أي : وحده ﴿السميع﴾ أي : لكل مسموع من استعاذتك وغيرها ﴿العليم﴾ أي : بكل معلوم من نزغه وغيره فهو القادر على رد كيده وتوهين أمره ثم استدل على ذلك بقوله تعالى :
﴿ومن آياته﴾ الدالة على وحدانيته وأنه سميع عليم ﴿الليل والنهار﴾ باختلاف هيئتهما على قدرته على البعث وكل مقدور، وقدم الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدم، والنور وجود والعدم سابق على الوجود، ﴿والشمس والقمر﴾ اللذان هما الليل والنهار، وقدم الشمس على ذكر القمر لكثرة نفعها.
ولما ثبت أنه تعالى المنفرد بالخلق قال سبحانه :﴿لا تسجدوا للشمس﴾ التي هي من أعظم
٦١٧
أوثانكم وأعاد النافي تأكيداً فقال :﴿ولا للقمر﴾ فإنهما دالان على وجود الإله مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بالذي أوجدهما من العدم كما قال تعالى :﴿واسجدوا لله﴾ (فصلت : ٣٧)
أي : الذي له كل كمال من غير شائبة نقص.
واختلف في عود الضمير في قوله تعالى :﴿الذي خلقهن﴾ على أوجه ؛ أولاها : عوده للآيات الأربع كما جرى عليه الجلال المحلي، وقيل : يرجع لليل والنهار والشمس والقمر، قال الزمخشري : لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى والإناث، يقال : الأقلام بريتها وبريتهن، وناقشه أبو حيان من حيث أنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث وفي جمع الكثرة أن يعامل معاملة الأنثى، والأفصح أن يقال : الأجذاع كسرتهن والجذوع كسرتها، وأجاب بعضهم : بأن الزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح من الأفصح بل في مقام كيف يجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنت، وقال البغوي : إنما قال خلقهن بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنت.


الصفحة التالية
Icon