فكيف يكونون لاعنين لهم ومستغفرين لهم ؟
أجيب : بوجوه ؛ الأول : أنه عام مخصوص بآية غافر ﴿ويستغفرون للذين آمنوا﴾ (غافر : ٧)، الثاني : أن قوله تعالى :﴿لمن في الأرض﴾ لا يفيد العموم لأنه يصح أن يقال استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض ولو كان صريحاً في العموم لما صح ذلك، الثالث : يجوز أن يكون المراد بالاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى :﴿إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا﴾ إلى أن قال تعالى ﴿إنه كان حليماً غفوراً﴾ (الإسراء : ٤٤)
الرابع : يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض أما في حق الكفار فبطلب الإيمان لهم، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، فإنا نقول اللهم اهد الكفار وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر، وهذا استغفار في الحقيقة وقوله تعالى :﴿ألا إن الله﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال ﴿هو﴾ أي : وحده ﴿الغفور الرحيم﴾ تنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة لله تعالى، وهذا يدل على أنه تعالى يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة.
﴿والذين اتخذوا من دونه﴾ أي : غير الله تعالى ﴿أولياء﴾ أي : أنداداً وشركاء يعبدونهم كالأصنام ﴿الله﴾ أي : المحيط بصفات الكمال ﴿حفيظ﴾ أي : رقيب ومراع وشهيد ﴿عليهم﴾ أي : على أعمالهم ولا يغيب عنه شيء من أعمالهم فهو إن شاء أبقاهم على كفرهم وجازاهم عليه بما أعد للكافرين، وإن شاء تاب عليهم ومحا ذلك عيناً وأثراً ولم يعاقبهم، وإن شاء محاه عيناً وأبقى الأثر حتى يعاقبهم ﴿وما أنت﴾ يا أشرف الرسل ﴿عليهم بوكيل﴾ أي : حتى يلزمك أن تراعي جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم فتحفظها وتقسرهم على تركها ونحو ذلك مما يتولاه الوكيل بما يقوم فيه مقام الموكل سواء قالوا لا تسمعوا لهذا القرآن أم قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وغير ذلك إذ ما عليك إلا البلاغ.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٢٦
وكذلك﴾
أي : ومثل ذلك الإيحاء ﴿أوحينا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿إليك قرآناً﴾ أي :
٦٢٨
جامعاً لكل حكمة مع الفرق لكل ملتبس ﴿عربياً﴾ فهو بين الخطاب واضح الصواب معجز الجناب ﴿لتنذر﴾ أي : به ﴿أم القرى﴾ أي : أهل مكة التي هي أم الأرض وأصلها منها دحيت، أو لشرفها أوقع الفعل عليها عداً لها عداد العقلاء أو غير ذلك إذ ما عليك إلا البلاغ، وقوله تعالى ﴿ومن حولها﴾ معطوف على أهل المقدر قبل أم القرى، والمفعول الثاني محذوف أي : العذاب والمراد بمن حولها : قرى الأرض كلها من أهل البدو والحضر وأهل المدر والوبر، والإنذار : التخويف ﴿وتنذر﴾ أي : الناس.
﴿يوم الجمع﴾ أي : يوم القيامة يجمع الله تعالى فيه الأولين والآخرين وأهل السموات والأرضين ويجمع الأرواح بالأجساد ويجمع بين العامل وعمله ويجمع بين الظالم والمظلوم ﴿لا ريب﴾ أي : لا شك ﴿فيه﴾ لأنه ركز في فطرة كل أحد وقوله تعالى :﴿فريق﴾ يجوز فيه وجهان ؛ أحدهما : أنه مبتدأ وساغ هذا في النكرة لأنه مقام تفصيل وخبره ﴿في الجنة﴾ أي : تفضلاً منه ورحمة، وهم الذين قبلوا الإنذار وبالغوا في الحذار، ويجوز أن يكون الخبر مقدراً تقديره منهم فريق، وساغ الابتداء بالنكرة حينئذ لشيئين : تقديم خبرها جاراً ومجروراً ووصفها بالجار بعدها، والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هم أي : المجموعون فريق، دل على ذلك قوله تعالى :﴿يوم الجمع﴾ وقوله تعالى :﴿وفريق في السعير﴾ أي : عدلاً منه فيه ما مر، وهم الذين خذلهم الله تعالى ووكلهم إلى أنفسهم، فإن قيل : يوم الجمع يقتضي كون القوم مجتمعين والجمع بين الصنفين محال ؟
أجيب : بأنهم يجتمعون أولاً ثم يصيرون فريقين قال القشيري : كما أنهم في الدنيا فريقان فريق في راحات الطاعات وحلاوات العبادات، وفريق في ظلمات الشرك وعقوبات الجحد والشك فكذلك غداهم فريقان، فريق هم أهل اللقاء وفريق هم أهل البلاء والشقاء.


الصفحة التالية
Icon