ورى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال :"خرج علينا رسول الله ﷺ ذات يوم قابضاً على كفيه ومعه كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان ؟
قلنا : لا يا رسول الله فقال : للذي في يده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، ثم قال للذي في يده اليسرى هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفاً في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفاً في الأرحام، إذ هم في الطينة منجدلون فليس يزاد فيهم ولا ينقص منهم، إجمال من الله تعالى عليهم إلى يوم القيامة، فقال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل إذن ؟
فقال : اعملوا وسددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيَّ : عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيَّ : عمل ثم قال ﴿فريق في الجنة وفريق في السعير﴾ عدل من الله تعالى" أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٢٦
ولو شاء الله﴾ أي : المحيط بجميع أوصاف الكمال ﴿لجعلهم﴾ أي : المجموعين ﴿أمة واحدة﴾ للثواب أو للعذاب، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء أن يكونوا فريقين مقسطين وظالمين ليظهر
٦٢٩
فضله وعدله وأنه إله جبار واحد قهار لا يبالي بأحد، وهو معنى قوله تعالى ﴿ولكن يدخل من يشاء﴾ إدخاله ﴿في رحمته﴾ بخلق الهداية في قلبه فتكون أفعالهم في مواضعها وهم المقسطون، ويدخل من يشاء في نقمته بخلق الضلالة في قلوبهم فيكونوا ظالمين فلا تكون أفعالهم في مواضعها، فالمقسطون ما لهم من عدو ولا نكير ﴿والظالمون﴾ أي : العريقون في الظلم الذين ساء ظلمهم وهم الكافرون فيدخلهم في لعنته ﴿ما لهم من ولي﴾ أي : يلي أمورهم فيجتهد في صلاحها فيدفع عنهم العذاب ﴿ولا نصير﴾ ينصرهم من الهوان فيمنعهم من النار، وعلى هذا التقدير : فالآية من الاحتباك وهو ظاهر ذكر الرحمة أولاً دليلاً على اللعنة ثانياً، والظلم وما معه ثانياً دليلاً على أضداده أولاً، وهذا تقدير لقوله تعالى :﴿الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل﴾ أي : أنت لا تقدر أن تحملهم على الإيمان ولو شاء الله تعالى لفعله لأنه أقدر منك، لكنه تعالى جعل البعض مؤمناً والبعض كافراً.
ولما حكى الله تعالى عنهم أولاً أنهم اتخذوا من دونه أولياء ثم قال لنبيه محمد ﷺ ﴿لست عليهم بوكيل﴾ أي : لا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان، فإن الله تعالى لو شاء لفعله أعاد ذلك الكلام على سبيل الإنكار بقوله تعالى :
﴿أم اتخذوا من دونه أولياء﴾ كالأصنام وهذه أم المنقطعة فتقدر ببل التي للانتقال، وبهمزة الإنكار أو بالهمزة فقط أو ببل فقط أي : ليس المتخذون أولياء ﴿فالله﴾ أي : المختص بصفات الكمال ﴿هو﴾ وحده ﴿الولي﴾ قال ابن عباس : وليك يا محمد وولي من اتبعك، والفاء : جواب الشرط المقدر كأنه قال : إن أرادوا أولياء بحق فالله هو الولي لا ولي سواه، وقيل : هي لمجرد العطف وجرى على هذا الجلال المحلي، وعلى الأول الزمخشري ﴿وهو﴾ أي : ومن شأن هذا الولي ﴿يحيي الموتى﴾ أي : يجدد إحياءها في كل وقت يشاؤه ﴿وهو﴾ وحده ﴿على كل شيء قدير﴾ فهو الحقيق بأن يتخذ ولياً دون من لا يقدر على شيء.
ولما منع تعالى نبيه محمداً ﷺ أن يحمل الكفار على الإيمان، منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في المخاصمات والمنازعات بقوله تعالى :
﴿وما اختلفتم﴾ أي : أنتم والكفار ﴿فيه من شيء﴾ أي : من أمور الدنيا أو الدين ﴿فحكمه إلى الله﴾ أي : مفوض إلى الذي هو الولي لا غيره، يميز المحق من المبطل بالنصر والإثابة والمعاقبة، وقيل : ما اختلفتم فيه من تأويل المتشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب الله ﴿ذلكم الله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ربي﴾ أي : الذي لا مربي لي غيره في ماض ولا حال ولا استقبال ﴿عليه﴾ أي : وحده ﴿توكلت﴾ أسلمت جميع أمري ﴿وإليه﴾ لا إلى غيره ﴿أنيب﴾ أي : أرجع بالتوبة إذا قصرت في شيء من فروع شرعه وأرجع إلى كتابه إذا نابني أمر من الأمور فأعرف منه حكمة فافعلوا أنتم كذلك واجعلوه الحكم تفلحوا ولا تعدلوا عنه في شيء من الأشياء تهلكوا، وقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٦٢٦